القبطان وسام حافظ : قتلنا 42 جنديا إسرائيليا في عملية «التمساح» ثأرا للفريق عبدالمنعم رياض
*عساكر الإنجليز ألقوني أنا وأخي خارج نادي القناة فأقسمت على طرد الاحتلال
* موعد ثورة يوليو تحدد قبل القبض على الضباط الأحرار بيوم واحد
* لم أنس أبدأ مرارة الهزيمة عندما شاهدت جنود الاحتلال الإسرائيلي على الضفة الشرقية
*عبد الناصر كان قائدا شجاعا.. وخطط لتأميم القناة منذ 1954
في مثل هذه الأيام منذ نحو نصف قرن من الزمان، وبالتحديد يوم 19 أبريل عام 1969، نجحت قواتنا المسلحة، ممثلة في المجموعة "39 قتال"، في الثأر لاغتيال الفريق عبدالمنعم رياض، رئيس أركان القوات المسلحة آنذاك.
القبطان وسام عباس حافظ، كبير مرشدي قناة السويس، أحد أبطال "المجموعة 39 قتال" التي كان يقودها البطل الشهيد إبراهيم الرفاعي، فتح قلبه لـ"فيتو"، وروى الكثير من الأسرار عن عملية لسان التمساح (1) التي استهدفت الثأر للشهيد عبدالمنعم رياض.
قناة السويس هي العشق الأول له.. لم ينسَ أبدا الطفل الصغير وسام عندما قام عساكر الإنجليز بحمله هو وشقيقه وائل وألقوهما خارج نادي هيئة قناة السويس.. ظل هذا الموقف بداخله، وأقسم أن يصبح ضابطا ليحرر أرض مصر المقدسة من أي معتدٍ.
القبطان وسام بطل من طراز فريد؛ فقد نشأ في أسرة عسكرية، تعشق تراب أرض مصر، فوالده العميد عباس حافظ دفعة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وزميله في حرب فلسطين عام 48، والأكثر من ذلك أن بيت جده كان المخبأ السري الذي يلتقي فيه الضباط الأحرار للتخطيط لثورة 23 يوليو التي غيرت معالم مصر.
في مدينه الإسماعيلية الجميلة المطلة على القناة، وداخل إحدى الفيللات التي كانت مخصصة لموظفي الهيئة، حيث يسكن القبطان المتيم بالقناة، كان باستقبالنا على بابها مبتسمًا، رحب بنا ودعانا للدخول.
حوائط المنزل تزينها النياشين والأنواط التي حصل عليها خلال عمله بالوحدات الخاصة والنجاحات التي حققتها المجموعة "39 قتال"، تتوسطها ميدالية المجموعة المرعبة، وكل نوط منها وشهادة تدعوك إلى الوقوف أمامها كثيرا.
سرح بفكره.. وكأنه يسترجع شريط الذكريات.. ثم قال: ولدت في منزل معجون بالوطنية والكبرياء، فوالدي ضابط بالجيش المصري، ولم يكن ضابطا عاديا، بل كان لديه فكر وحب للوطن، ويكره الاستعمار، وكنت وأنا صغير أرى أبي ومعه ضباط يجتمعون في منزل جدي القديم يتحدثون عن اغتصاب أرضنا من قبل الإنجليز والملك وأعوانه، وأنهم لابد أن يقوموا بشيء حيال ذلك، ولم أكن أعي وقتها هذا الكلام، ولكن هذا الشعور نشأ بداخلي عندما ذهبنا بصحبة والدي إلى السويس، وكان وقتها ضابطا في حرس الحدود، ولأن المحافظة وقتها كانت صغيرة، ومعظم سكانها من الموظفين بقناة السويس؛ أجانب فرنسيون وإنجليز وغيرهم من الجنسيات الأخرى.. أنشأوا ناديا للهيئة يجلسون فيه للترفيه ليلا، وكانوا يقسمون هذا النادي لقسمين؛ الثلثان لهم به أحدث الألعاب والملاهي للأطفال، والثلث للعاملين المصريين، وكان بمثابة غرفة البواب في فيللا فارهة.
وفي يوم من الأيام اصطحبنا والدي إلى النادي؛ أنا وأخي وائل، وكان في الخامسة من عمره وأنا في السابعة، وتركنا وذهب إلى عمله.. حاولنا اللعب ولكن ألعاب الأطفال بالية ومكسورة، ونظرنا في الجانب الثاني الذي يفصلنا عنه سلك حديدي، فوجدنا الأطفال الأجانب يلعبون ويمرحون بأحدث الألعاب فتسللنا أنا وأخي لداخل قسمهم، وحاولنا اللعب، ولكن لمحتنا فتاة أجنبية صغيرة فصرخت، وكأننا كائنات غريبة خطيرة، فجاء على الفور اثنان من عساكر الإنجليز، وحملانا أنا وأخي وكأننا جوالين، وألقوا بنا خارج النادي قائلين"never come backe".. لا تعودوا هنا أبدا، وكنت وقتها في مدرسة خاصة وفهمت ماذا قالا.
وذهبنا إلى والدي وشكونا له فجاء وتشاجر مع مدير النادي الإنجليزي الذي اعتذر لوالدي، وحاول تهدئتنا وأعطانا بعض الحلوى، فأخذتها من يده ورميتها على الأرض أمامه قائلا: "هذه أرضنا وأنتم غير مرغوب بكم هنا".
وقتها شعرت بجرح في كرامتي، وأن الاعتذار ليس كافيا، وقررت يومها أنني سأفعل أي شيء لكي أدخل هذا النادي، ولكن بعد تنظيفه من الاحتلال، وفرح وقتها والدي بموقفي، وأخذ يعلمني أن هذه الأرض ملك لنا ولابد من تحريرها.
أيقنت ساعتها عشقي للوطن، واستعددت للانضمام لفريق الأبطال ومصنع الرجال كأداة تمحو أي شيء يقترب من أرضي وأرض أجدادي ومن بعدهم أبنائي.
• أروِ لنا ذكرياتك عن جمال عبد الناصر والضباط الأحرار؟
- بعد حرب 48 عاد والدي إلى مصر، بعد أن هرب من أسر القوات الإسرائيلية، وكان يشعر هو وزملاؤه من الضباط المشاركين، بمرارة واضحة، بسبب انتصار إسرائيل واحتلالها الأراضي الفلسطينية بمساعدة دول الاحتلال وقتها، وكانوا يأتون إلى منزل جدي القديم بالمطرية (شارع وهبة عبد الخالق) يوميا، ويجلسون في الجراج مع بعض، يتكلمون بدعوى أنهم يحضرون لامتحان الترقي كان هذا عام 1949، وكان والدي وقتها في الكلية الحربية هو وعبد الناصر، وكنت أشعر أنهم مجموعة شجاعة، ولم أكن أعرف أسماءهم ولا أتكلم معهم، ولكنني كنت أراقبهم من بعيد.. وكان هناك شخص واحد يلفت نظري، هو جمال عبد الناصر، حيث كان يظهر كأنه قائدهم.. هذا الشعور كان يتملكني فعبد الناصر....
سكت فجأة قليلا، يفكر، ثم عاد للحديث: حتى الآن لا أستطيع أن أجد وصفًا لعبد الناصر سوى أنه حالة فريدة من القيادة والكبرياء.. عندما كان يتحدث يسكت باقي زملائه.. ينصتون ويصغون.. أحببت تحركاته وكلماته، وبرغم أنني لم أكن أسمع أو أعي ما يقولون، فإنني كنت أشعر بأن هناك عظمة وشموخًا يستمد منه باقي زملائه الكبرياء والثقة، وشعرت في هذا الشخص بشيء يجعلني أحبه وأحترمه وأخاف منه.. بصراحة هذا كان شعوري عندما كنت أراه هو وزملاء والدي في منزل جدي، وظلوا يلتقون في منزل جدي منذ عام 49 حتى أوائل 52، وبعد فترة من لقاءاتهم شعروا بأن هناك عناصر من البوليس السياسي تراقب منزل جدي، وأنهم معرضون للقبض عليهم في أي لحظة، فقام جدي ببيع الفيللا، واشترينا غيرها في مصر الجديدة، وظلوا يتقابلون ويخططون حتى قاموا بالثورة يوم 23 يوليو 52.. وقد اختاروا هذا التاريخ بعد علمهم من أحد زملائهم الذي يعمل بالبوليس السياسي أن هناك أوامر بالقبض عليهم يوم 24 يوليو.. وهذا يعني أن تأخرهم ليوم واحد سيحبط كل المخططات التي وضعوها منذ عامين للانقلاب على الملك وأعوانه، وتطهير البلاد من الاحتلال الإنجليزي.
وبعد الثورة بدأ فصل جديد لوالدي وزملائه للنضال الوطني، وهو جلاء الإنجليز، وكتب والدي بنود المرحلة مع زملائه، لأنه كان يكتب ويتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة، وتخرج ودرس هو ووالدتي علم نفس من الجامعة الأمريكية عام 51 بجانب الكلية الحربية.
وفي أحد الأيام أثناء زيارته لوالدي سمعت عبد الناصر يقول: "يا عباس خلصنا من الإنجليز وغاروا أخيرا عن مصر.. بعد ما يمشوا أنا عندي نية لتأميم قناة السويس، ولكن هناك أشياء كثيرة لا نعرفها عن القناة فهي تدار بالكامل من قبل الأجانب فماذا نفعل؟!" ففكروا في فكرة، جهنمية من وجهة نظري، وهي أن يقوم رئيس جهاز الرياضة "وزير الشباب والرياضة حاليا"، بالدعوة إلى مسابقة سباحة للشباب مسافات طويلة من السويس إلى بورسعيد، وأن نقول للأجانب إنها دعاية للقناة، ونقوم بتصوير القناة ودراستها وكيفية عمل المرشدين وكم مرشد في الوردية... إلخ.. وبالفعل وافقت إدارة هيئة قناة السويس على الفكرة، وكان السباق في يونيو عام 55 وشاركت فيه أنا، وكان عمري وقتها 13 سنة، ممثلًا لنادي "هوليوليدو"، وعرفت من والدي أنهم نجحوا في جمع المعلومات المطلوبة عن القناة، ووضعوا خطة مدروسة، اشترك فيها أشخاص مخلصون لم ينصفهم الإعلام، وهم: "محمود يونس– محمد إدريس- عزت عادل"، ضباط ومهندسون من القوات المسلحة، شاركوا في وضع خطة تأميم قناة السويس في 26 يوليو 56.
يصمت قليلا، وكأنه يتأكد من دقة معلومة ما.. ويستأنف: الكل يعلم أن سبب تأميم قناة السويس هو حجة عدم موافقة صندوق النقد الدولي على إنشاء السد العالي، ولكن هذا غير صحيح لأنه كان يتم التخطيط لتأميم القناة منذ 54؛ فجمال عبد الناصر كان شخصًا منظمًا، ولديه خطط وطموحات كبيرة لمصر، أهمها ممارسة السيادة خالصة للمصريين، ولكن بعد جلاء الإنجليز كان هناك احتلال آخر من وجهة نظره وهو احتلال الخواجات للقناة، بدعوى عدم قدرة المصريين على إدارتها، فكانوا يأخذون كل الإيرادات، ونحن نأخذ "الفتات"، وعودة إدارتها لمصر معناه زيادة في الدخل القومي لبناء المشروعات العملاقة.
• حدثنا عن نفسك وسط كل هذه الأحداث؟
- بدأت إعداد نفسي لأصبح مثل هؤلاء الأبطال، وأحاول أن أشارك بما أستطيع لبناء وطني؛ فاشتركت في بطولة الجمهورية للتجديف، ثم الطيران الشراعي، وأنا في الصف الأول الثانوي في الخمسينيات، ونجحت في الحصول على سيلفر، "s" مسافة 40 كم في طريق السويس الصحراوي، وهذه الرياضات كانت تساعد في زيادة مجموع المدرسة، فحصلت على 75%، وصممت على دخول الكلية البحرية عام 61، وتخرجت فيها عام 64، ورفضت دخول الطيران برغم أنني كنت متفوقًا جدا فيه، ولكن ضابط الطيران يكشف كل 6 شهور، وممكن يسقط في الكشف الطبي، ويحال للتقاعد عند سن 40 عاما، أما أنا فكنت أريد أن أصبح ضابطا مدى الحياة وأطول الضباط عمرا هم ضباط البحرية، بالإضافة إلى أنني أعشق البحر.. وبعد تخرجي عملت على لنشات الصواريخ في بورسعيد، وبعدها انتقلت إلى الوحدات الخاصة بالصاعقة البحرية.
• هل شاركت في حرب اليمن ؟
- بعد عودتي للإسكندرية التحقت بفرقة صاعقة وكنت من المتقدمين، وأعجبت وقتها قائدي الوحدات الخاصة؛ عمر الفاروق وسعيد مرسي، وأخذاني معهما لفرقة ضفادع بشرية ثم فرقة صاعقة بحرية، بعدها تم اختياري للانضمام إلى السرية السادسة الخاصة المكلفة بتأمين الواردات باليمن وسافرت عام 66.
• احكِ لنا ذكرياتك في اليمن؟
- من المهام التي كلفت بها من قائد الوحدات الخاصة وقتها العقيد حسن هندي أن هناك مؤامرة على قوات الجيش المصري الموجودة باليمن، وهي قيام بعض الأفراد بسرقة الأسلحة التي نستوردها من روسيا لدعم قواتنا، وأخذها إلى مخازن القوات التي تحارب ضد ثورة الشعب اليمني، وكان المشكوك فيهم وقتها محافظ الحديدة وقائد القوات البحرية ومدير إدارة التسليح اليمني، وكانت المهمة خطفهم دون أن يتم معرفة الخاطفين.. وتمت العملية وأخذتهم إلى صنعاء لمحاكمتهم واعترفوا بالجرائم، وكان معهم أشخاص كثيرون تابعون للمخابرات الأمريكية وقتها.
وبعدها رشحت لفرقة مظلات وأنا في صنعاء، وقابلت هناك إبراهيم الرفاعي وكان برتبة مقدم وقتها، وعدنا إلى مصر على مركب "نجمة الأقصر"، وكان ذلك أواخر عام 66 ونحن في البحر فوجئنا بطرادين إنجليزيين يراقبوننا ويسيران خلفنا، فعلمنا ساعتها أن الإنجليز وأمريكا غير موافقين على وجودنا في اليمن، وسيكون هناك عمل عدائي ضدنا لكننا لم نتوقع أن إسرائيل هي التي ستقوم بالعمل.
• أروِ لنا شعورك عندما حدثت نكسة يونيو؟
- لن أستطيع أبدا وصف شعوري عندما رأيت اليهود في الضفة الشرقية للقناة واحتلالهم لسيناء.. كنت أتمني وقتها أن أكون لغمًا أفجر كل الموجودين مرة واحدة.. كانت هزيمة عسكرية ومعنوية لي وللكل.. لا أجد الكلمات التي أستطيع الوصف بها، ولكننا لم نستسلم يوما ونتركهم يهنأون بالأرض لحظة، هم انتصروا انتصارا مؤقتا ونحن "وجعناهم قوي".
• كيف بدأت مع المجموعة "39 قتال"؟
- بعد عودتي من اليمن انضممت إلى وحدات خاصة بالإسكندرية، وبدأت القوات المسلحة في تجهيز مجموعة مختارة من الصاعقة البحرية لتجهيز عمليات انتقامية ضد القوات الإسرائيلية في سيناء.. كان قائدي وقتها المقدم إسلام توفيق الذي قام باختيار مجموعة من أمهر وأشد المقاتلين في الصاعقة البحرية والضفادع البشرية من الضباط وضباط الصف لتكوين لواء للوحدات الخاصة، وكانت أول عملية شاركنا بها هي تفجير مخازن الذخيرة التي تركها الجيش المصري أثناء الانسحاب من سيناء حتى لا تستخدمها إسرائيل.. تمت العملية في 1 يوليو، وكانت مفاجئة للعدو أفقدته التوازن، إذ كيف تقوم مجموعة صغيرة من القوات المصرية المهزومة خلال أيام بنسف كل مخازن الذخيرة والمعدات الثقيلة التي تركوها، وبعدها بـ5 أيام كانت معركة رأس العش التي كبدنا فيها إسرائيل خسائر فادحة، ودمرنا خلالها كتيبة مدرعات بالكامل بفصيلة صاعقة، ثم انضممنا أواخر عام 67 لمجموعة إبراهيم الرفاعي التي أطلق عليها "39 قتال" وانتقلنا لموقع المجموعة الذي كان في مركز القوات البحرية على النيل في القاهرة، وكل يوم سبت نقوم بعملية موجعة داخل سيناء كانت تفقد العدو توازنه، واستمرت هذه العمليات كل أسبوع حتى يوم استشهاد الفريق عبد المنعم رياض في 9 مارس 69، حيث أوكلت للمجموعة "39 قتال" بقيادة الرفاعي مهمة الثأر من الموقع الذي أطلق النار عليه في الضفة الشرقية، فقمنا بالتدريب ليل نهار لتنفيذ المهمة التي تحدد ميعادها يوم 19 أبريل يوم ذكري الأربعين للشهيد رياض، وبدأت المدفعية التمهيد النيراني للعملية، حتى يدخل اليهود الخنادق خوفا من الإصابة، ثم اصطحبنا القبطان وسام إلى نادي اليخوت بهيئة قناة السويس أنا والمصور ليشرح لنا على الطبيعة كيف قام رجال الوحدات الخاصة بالمجموعة "39 قتال" بالاستعداد ونفخ القوارب والتخفي من قوات العدو، حتى وصلوا إلى الموقع الذي خرجت منه دانة المدفعية التي أودت بحياة الشهيد رياض.. العملية هي "لسان التمساح1".
وأكمل وسام: تحركنا بالليل ووصلنا للضفة الشرقية حاملين معنا أنابيب صغيرة مملوءة بالغاز، ووضعناها في المزاغل التي يخرج منها الإسرائيليون بنادقهم فتنفجر بالداخل، وتقتل عددًا منهم والباقي الذي يخرج نقوم نحن بقتله بالأسلحة الخفيفة "الرشاشات - البنادق".. قتلنا نحو 42 جنديًّا إسرائيليًّا، وأبدنا الموقع بالكامل، ورفعنا العلم المصري عليه احتفالا بالأخذ بالثأر، ومكثنا فيه نحو 3 ساعات.. بعدها صدرت الأوامر بالانسحاب، وأصيب عدد من الضباط والجنود من مجموعتنا، فقام الرئيس عبد الناصر بنفسه بزيارتهم بمستشفى القصاصين بالإسماعيلية؛ عرفانا منه بنجاحنا في الأخذ بثأر الشهيد البطل الفريق عبد المنعم رياض.
الحوار منقول بتصرف عن النسخة الورقية لـ "فيتو"
وفي أحد الأيام أثناء زيارته لوالدي سمعت عبد الناصر يقول: "يا عباس خلصنا من الإنجليز وغاروا أخيرا عن مصر.. بعد ما يمشوا أنا عندي نية لتأميم قناة السويس، ولكن هناك أشياء كثيرة لا نعرفها عن القناة فهي تدار بالكامل من قبل الأجانب فماذا نفعل؟!" ففكروا في فكرة، جهنمية من وجهة نظري، وهي أن يقوم رئيس جهاز الرياضة "وزير الشباب والرياضة حاليا"، بالدعوة إلى مسابقة سباحة للشباب مسافات طويلة من السويس إلى بورسعيد، وأن نقول للأجانب إنها دعاية للقناة، ونقوم بتصوير القناة ودراستها وكيفية عمل المرشدين وكم مرشد في الوردية... إلخ.. وبالفعل وافقت إدارة هيئة قناة السويس على الفكرة، وكان السباق في يونيو عام 55 وشاركت فيه أنا، وكان عمري وقتها 13 سنة، ممثلًا لنادي "هوليوليدو"، وعرفت من والدي أنهم نجحوا في جمع المعلومات المطلوبة عن القناة، ووضعوا خطة مدروسة، اشترك فيها أشخاص مخلصون لم ينصفهم الإعلام، وهم: "محمود يونس– محمد إدريس- عزت عادل"، ضباط ومهندسون من القوات المسلحة، شاركوا في وضع خطة تأميم قناة السويس في 26 يوليو 56.
يصمت قليلا، وكأنه يتأكد من دقة معلومة ما.. ويستأنف: الكل يعلم أن سبب تأميم قناة السويس هو حجة عدم موافقة صندوق النقد الدولي على إنشاء السد العالي، ولكن هذا غير صحيح لأنه كان يتم التخطيط لتأميم القناة منذ 54؛ فجمال عبد الناصر كان شخصًا منظمًا، ولديه خطط وطموحات كبيرة لمصر، أهمها ممارسة السيادة خالصة للمصريين، ولكن بعد جلاء الإنجليز كان هناك احتلال آخر من وجهة نظره وهو احتلال الخواجات للقناة، بدعوى عدم قدرة المصريين على إدارتها، فكانوا يأخذون كل الإيرادات، ونحن نأخذ "الفتات"، وعودة إدارتها لمصر معناه زيادة في الدخل القومي لبناء المشروعات العملاقة.
• حدثنا عن نفسك وسط كل هذه الأحداث؟
- بدأت إعداد نفسي لأصبح مثل هؤلاء الأبطال، وأحاول أن أشارك بما أستطيع لبناء وطني؛ فاشتركت في بطولة الجمهورية للتجديف، ثم الطيران الشراعي، وأنا في الصف الأول الثانوي في الخمسينيات، ونجحت في الحصول على سيلفر، "s" مسافة 40 كم في طريق السويس الصحراوي، وهذه الرياضات كانت تساعد في زيادة مجموع المدرسة، فحصلت على 75%، وصممت على دخول الكلية البحرية عام 61، وتخرجت فيها عام 64، ورفضت دخول الطيران برغم أنني كنت متفوقًا جدا فيه، ولكن ضابط الطيران يكشف كل 6 شهور، وممكن يسقط في الكشف الطبي، ويحال للتقاعد عند سن 40 عاما، أما أنا فكنت أريد أن أصبح ضابطا مدى الحياة وأطول الضباط عمرا هم ضباط البحرية، بالإضافة إلى أنني أعشق البحر.. وبعد تخرجي عملت على لنشات الصواريخ في بورسعيد، وبعدها انتقلت إلى الوحدات الخاصة بالصاعقة البحرية.
• هل شاركت في حرب اليمن ؟
- بعد عودتي للإسكندرية التحقت بفرقة صاعقة وكنت من المتقدمين، وأعجبت وقتها قائدي الوحدات الخاصة؛ عمر الفاروق وسعيد مرسي، وأخذاني معهما لفرقة ضفادع بشرية ثم فرقة صاعقة بحرية، بعدها تم اختياري للانضمام إلى السرية السادسة الخاصة المكلفة بتأمين الواردات باليمن وسافرت عام 66.
• احكِ لنا ذكرياتك في اليمن؟
- من المهام التي كلفت بها من قائد الوحدات الخاصة وقتها العقيد حسن هندي أن هناك مؤامرة على قوات الجيش المصري الموجودة باليمن، وهي قيام بعض الأفراد بسرقة الأسلحة التي نستوردها من روسيا لدعم قواتنا، وأخذها إلى مخازن القوات التي تحارب ضد ثورة الشعب اليمني، وكان المشكوك فيهم وقتها محافظ الحديدة وقائد القوات البحرية ومدير إدارة التسليح اليمني، وكانت المهمة خطفهم دون أن يتم معرفة الخاطفين.. وتمت العملية وأخذتهم إلى صنعاء لمحاكمتهم واعترفوا بالجرائم، وكان معهم أشخاص كثيرون تابعون للمخابرات الأمريكية وقتها.
وبعدها رشحت لفرقة مظلات وأنا في صنعاء، وقابلت هناك إبراهيم الرفاعي وكان برتبة مقدم وقتها، وعدنا إلى مصر على مركب "نجمة الأقصر"، وكان ذلك أواخر عام 66 ونحن في البحر فوجئنا بطرادين إنجليزيين يراقبوننا ويسيران خلفنا، فعلمنا ساعتها أن الإنجليز وأمريكا غير موافقين على وجودنا في اليمن، وسيكون هناك عمل عدائي ضدنا لكننا لم نتوقع أن إسرائيل هي التي ستقوم بالعمل.
• أروِ لنا شعورك عندما حدثت نكسة يونيو؟
- لن أستطيع أبدا وصف شعوري عندما رأيت اليهود في الضفة الشرقية للقناة واحتلالهم لسيناء.. كنت أتمني وقتها أن أكون لغمًا أفجر كل الموجودين مرة واحدة.. كانت هزيمة عسكرية ومعنوية لي وللكل.. لا أجد الكلمات التي أستطيع الوصف بها، ولكننا لم نستسلم يوما ونتركهم يهنأون بالأرض لحظة، هم انتصروا انتصارا مؤقتا ونحن "وجعناهم قوي".
• كيف بدأت مع المجموعة "39 قتال"؟
- بعد عودتي من اليمن انضممت إلى وحدات خاصة بالإسكندرية، وبدأت القوات المسلحة في تجهيز مجموعة مختارة من الصاعقة البحرية لتجهيز عمليات انتقامية ضد القوات الإسرائيلية في سيناء.. كان قائدي وقتها المقدم إسلام توفيق الذي قام باختيار مجموعة من أمهر وأشد المقاتلين في الصاعقة البحرية والضفادع البشرية من الضباط وضباط الصف لتكوين لواء للوحدات الخاصة، وكانت أول عملية شاركنا بها هي تفجير مخازن الذخيرة التي تركها الجيش المصري أثناء الانسحاب من سيناء حتى لا تستخدمها إسرائيل.. تمت العملية في 1 يوليو، وكانت مفاجئة للعدو أفقدته التوازن، إذ كيف تقوم مجموعة صغيرة من القوات المصرية المهزومة خلال أيام بنسف كل مخازن الذخيرة والمعدات الثقيلة التي تركوها، وبعدها بـ5 أيام كانت معركة رأس العش التي كبدنا فيها إسرائيل خسائر فادحة، ودمرنا خلالها كتيبة مدرعات بالكامل بفصيلة صاعقة، ثم انضممنا أواخر عام 67 لمجموعة إبراهيم الرفاعي التي أطلق عليها "39 قتال" وانتقلنا لموقع المجموعة الذي كان في مركز القوات البحرية على النيل في القاهرة، وكل يوم سبت نقوم بعملية موجعة داخل سيناء كانت تفقد العدو توازنه، واستمرت هذه العمليات كل أسبوع حتى يوم استشهاد الفريق عبد المنعم رياض في 9 مارس 69، حيث أوكلت للمجموعة "39 قتال" بقيادة الرفاعي مهمة الثأر من الموقع الذي أطلق النار عليه في الضفة الشرقية، فقمنا بالتدريب ليل نهار لتنفيذ المهمة التي تحدد ميعادها يوم 19 أبريل يوم ذكري الأربعين للشهيد رياض، وبدأت المدفعية التمهيد النيراني للعملية، حتى يدخل اليهود الخنادق خوفا من الإصابة، ثم اصطحبنا القبطان وسام إلى نادي اليخوت بهيئة قناة السويس أنا والمصور ليشرح لنا على الطبيعة كيف قام رجال الوحدات الخاصة بالمجموعة "39 قتال" بالاستعداد ونفخ القوارب والتخفي من قوات العدو، حتى وصلوا إلى الموقع الذي خرجت منه دانة المدفعية التي أودت بحياة الشهيد رياض.. العملية هي "لسان التمساح1".
وأكمل وسام: تحركنا بالليل ووصلنا للضفة الشرقية حاملين معنا أنابيب صغيرة مملوءة بالغاز، ووضعناها في المزاغل التي يخرج منها الإسرائيليون بنادقهم فتنفجر بالداخل، وتقتل عددًا منهم والباقي الذي يخرج نقوم نحن بقتله بالأسلحة الخفيفة "الرشاشات - البنادق".. قتلنا نحو 42 جنديًّا إسرائيليًّا، وأبدنا الموقع بالكامل، ورفعنا العلم المصري عليه احتفالا بالأخذ بالثأر، ومكثنا فيه نحو 3 ساعات.. بعدها صدرت الأوامر بالانسحاب، وأصيب عدد من الضباط والجنود من مجموعتنا، فقام الرئيس عبد الناصر بنفسه بزيارتهم بمستشفى القصاصين بالإسماعيلية؛ عرفانا منه بنجاحنا في الأخذ بثأر الشهيد البطل الفريق عبد المنعم رياض.
الحوار منقول بتصرف عن النسخة الورقية لـ "فيتو"