رئيس التحرير
عصام كامل

حصة استغلال الدين


كان محمد على باشا في معاركه، يدعي أنه يحارب لنصرة دين الله، وفي الوثائق التي تروي تفاصيل حروبه، كان يٌشار إلى جنود جيش محمد على بوصف "المؤمنون"، بينما يوصف أعداؤهم في المعارك بأنهم "الكفار"، وظلت هذه الصيغة مقبولة، بل وساهمت في إشعال حماس الجنود، وأدت إلى استبسالهم في القتال، وتحقيقهم انتصارات مذهلة، إلى أن أصبحت الحرب بين جيش محمد على من جانب، وجيش السلطان العثماني - الذي كان يٌلقب بـ"حامي الحرمين الشريفين" - من جانب آخر، وهنا كان المأزق، فأي الفريقين هو المؤمن، وأيهما هو الكافر؟!


في إحدي المعارك نجح الجيش المصري في أسر 1791 جنديا من جيش العثمانيين، الذين أطلق عليهم السلطان محمود الثاني اسم "عساكرنا المحمدية المنصورة"، ووفقا للإجراءات العسكرية، أمر رجال إبراهيم باشا واحدا من الأسري بأن يكتب كشفا بأسماء زملائه، فكتب الرجل الكشف بالفعل، تحت عنوان "عساكرنا المحمدية المنصورة"، لكن رئيس ديوان إبراهيم باشا - ابن محمد على وقائد الجيش- رفض تسلم الكشف، فكيف يقبل كشفا يضم أسماء جنود العدو الذين وقعوا في الأسر، ويتم وصفهم بـ"العساكر المنصورة"؟ واحتدم الخلاف، ورفض الكاتب العثماني تغيير صفة الجنود، فتسلم رئيس الديوان الكشف، وشطب العنوان، وكتب فوقه "العساكر المقهورة"!

هذه القصة الطريفة التي يرويها الدكتور خالد فهمي أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية في كتابه "كل رجال الباشا"، تكشف بوضوح كم كان الدين لعبة في يد الحكام لحصد المكاسب السياسية، وتحقيق أحلامهم في التوسع والسيطرة، ينطبق ذلك على محمد على صاحب مذبحة القلعة إحدي أشهر المذابح في التاريخ، وعلي سلاطين الدولة العثمانية أيضا..

وفي الكتاب نفسه، سنجد وقائع أخرى لا تقل طرافة عن استغلال محمد على لورقة الدين، فهو مثلا عندما واجه مشكلة هروب الفلاحين المصريين من التجنيد في جيشه، كتب إلى ابنه إبراهيم يقول:

"نظرا لأن الفلاحين ليسوا معتادين على الخدمة العسكرية، فيجب ألا يٌسحبوا إلى الجيش بالقوة، وعلينا أن نرغبهم فيه، ويمكن تحقيق ذلك بتعيين بعض الوعاظ والفقهاء، الذين يجب أن يقنعوا الفلاحين بأن الخدمة العسكرية ليست كالسخرة، ونذكرهم بأن الفرنسيين حينما كانوا في مصر، استطاعوا بسهولة أن يجمعوا الأقباط للخدمة في جيشهم بسبب تلهفهم – يقصد الأقباط – على خدمة عقيدتهم، وإذا كان هذا حال القبط، فلا شك أن حال المسلمين سيكون أفضل، فقلوبهم تمتلئ بالتقوي والحماس للدفاع عن الدين!"

وقد سألت نفسي: يا تري كيف برر محمد على باشا موقفه أمام جنوده - المدافعين عن الدين والعقيدة- عندما انقلب الحال، وقرر إعلان الحرب على السلطان العثماني، سلطان المسلمين، وقائد "العساكر المحمدية المنصورة"، ماذا قال يا تري بعد أن دفع الآلاف من جنوده حياتهم، معتقدين أنهم يجاهدون في سبيل الله؟ ولم أجد بالطبع إجابة لسؤالي، بل إن مؤلف الكتاب نفسه طرح هذا التساؤل، ولم يعثر له في الوثائق على إجابة!

وأغلب الظن أن الباشا لم ينشغل كثيرا بالبحث عن مبرر، كما أن الجنود المساكين لم يمتلكوا بالطبع جرأة طرح التساؤل، أو محاولة الفهم، هم يساقون إلى حتفهم، يطالبهم قادتهم بالشجاعة في مواجهة الموت، يعدونهم بجنات الخلد التي تنتظرهم في الآخرة مع الشهداء الأبرار، تماما مثلما يفجر الشاب الداعشي نفسه، ليلحق بالحورية التي ستأخذ بيده الملطخة بدماء الأبرياء وتقوده إلى الجنة!

من هنا يبدو أن حصة "استغلال الدين"، كانت مقررة، ومكررة، في أغلب فترات تاريخنا، وكلنا يذكر كم دفعت مصر ثمنا لمحاولة حسني مبارك التخلص من الجماعات المتطرفة في الثمانينيات، عن طريق غض الطرف عن سفر أعضاء هذه الجماعات للجهاد ضد السوفيت في أفغانستان، معتقدا أنه أرسلهم لحتفهم، فكانت النتيجة أنهم تدربوا، وتعلموا، وحصلوا على المال والسلاح، وعادوا ليذيقونا الأمرين، قتلا وحرقا وخوفا ورعبا..

واللعبة ليست مقصورة على "ثمانينيات" مبارك، ولا على "سبعينيات" السادات، ولا العام الذي وصل فيه الإخوان لحكم مصر، هي ليست من ابتكار الحالم بالخلافة" رجب طيب أردوغان"، ولا من بنات أفكار أجهزة المخابرات التي تمول وتحرك تنظيمات القتل والإرهاب، بداية من قاعدة أسامة بن لادن، وحتى داعش وأخواتها، هي لعبة قديمة، لكنها للأسف لا تفقد صلاحيتها رغم مرور الزمن!
الجريدة الرسمية