راهب الجغرافيا.. جمال حمدان
يحتل الدكتور جمال حمدان في تاريخ مصر المعاصر مكانة كبيرة؛ فقد اهتم بعلم الجغرافيا بصورة خاصة وبالقضايا الثقافية بصورة عامة، كان مجال اهتمامه الجغرافيا السياسية والتاريخية والثقافية والعمران وجغرافية المدن وغيرها، ترك لنا العديد من الكتب المهمة من بينها كتاب قرأته منذ سنوات للمرة الأولى ثم أعدت قراءته مرة أخرى الأيام القليلة السابقة وتوقفت عنده كثيرا، ألا وهو كتاب "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان".
فهو يقع في أربعة أجزاء قدم لنا فيها الكثير من الآراء المهمة والتي تمثل ثمرة اطّلاعه، لقد امتاز أسلوب جمال حمدان بالطابع العلمى والأدبى معًا؛ فهو يلتزم بالدقة العلمية وفى نفس الوقت يكتب بأسلوب شيق ذات بُعد تنويرى وهو ما نفتقده الآن.
ففى كتاب شخصية مصر يُقدم جمال حمدان مصر من جهة المكان، ويقدم لنا البعد الإقليمى لمصر، بل يقدم مصر من جهة الزمان والمكان وعلاقتها بالعالم العربى، كما يكشف عن التجانس الطبيعي في البيئة المصرية حينما يتكلم عن عبقرية المكان إذ يقول: "التجانس الطبيعى صفة جوهرية في البيئة المصرية.. فالوادى كله وحدة فيضية.. أما التفرقة التقليدية بين الدلتا والصعيد فاختلاف في الشكل والمساحة قبل أن يكون في التركيب والنسيج".
ثم يتحدث جمال حمدان عن الدور السياسي والاجتماعى والاقتصادى لقناة السويس بل يتحدث عن مستقبلها، ومن يقرأ هذا الكتاب يستنبط حبه الكبير لمصر حيث يؤكد دائما على قيم ومفاهيم تخص الانتماء إذ يقول "إن كنانة الله، مصر المحروسة، يمكنها أن تنطلق إلى مستقبلها وأهدافها مطمئنة إلى أنها سيدة نفسها ومالكة أمرها من يمين أو شمال بلا أدنى شك أو قلق لأن ما كان أبوه التاريخ وأمه الجغرافيا فهو من صنع الله".
ويتحدث في هذا الكتاب عن أهمية موقع مصر وصلاته بالعروبة بل يعرض العمق الجغرافى الذي يمنح مصر السلام على طول التاريخ بعكس دول عربية كثيرة.
ويعرض في كتابه مرحلة التحول من الطغيان الإقطاعى إلى الثورة الاشتراكية، ومن السبق الحضارى إلى التخلف، والبناء الحضارى والأساس الطبيعى، بل يعرض الوطنية المصرية أو القومية العربية.
فهو يعرض شخصية مصر من خلال المناقشة والتحليل والمقارنة، يعرض شخصية مصر ذات البعد المكانى والبعد الزمانى شارحا المغذى الاقتصادى مبلورا المفهوم الثقافى للهوية المصرية.
كما يقدم لنا في هذا الكتاب شخصية المتخصص؛ فهو كان متخصصا في علم الجغرافيا، مثقفا في جميع الجوانب يجمع بين الروابط الجغرافيا والفكرية والعلمية والسياسية، يقدم علمًا من خلال إستراتيجية ذات بعد تنويرى ونجد بعض الكلمات في كتابه على حد قوله: "فما نرى في شخصية مصر مهما تبلورت أو تجوهرت الأجزاء من شخصية الوطن العربى الكبير.. وما نرى في دراستها تعارضا.. أي تعارض أمل الوحدة الشاهق.. وإذ كنا قد خصصنا مصر بالدراسة فهذا أمر طبيعى لجغرافى عربى من مصر..".
هذه بعض من لمحات كتاب جمال حمدان عن مصر وباقى الدول العربية حيث البعد السياسي والثقافى بل والحضارى.. هكذا لمحة لمنهج وأفكار الشخصيات المصرية التي أحبت العلم وأحبت مصر والتي تركت لنا مشاريع إصلاحية وثقافية وسياسية ويبقى علينا أن نستعيد قراءة هذه المشاريع لأن مصر في اللحظة الراهنة تحتاج لكل فكر وطنى أصيل.