العلاقات على حافة الواقع وعمق الافتراضي
في البداية كانت شاشة زرقاء تجمع مجموعة من الغرباء من الرجال والسيدات معا، قد تكون مجموعة متنوعة، مختلفة، متناغمة أحيانا ومتناقضة أحيانا أخرى، تحت وصف "أصدقاء"، في مسمى افتراضي لعالم موازِ للواقع يدعى "فيس بوك"، قد يجمعهم ميول سياسية واحدة، أو رفض سياسات يعانون منها مجتمعين على اختلاف أعمارهم أو جنسهم أو أفكارهم، أو قد نجدهم مجتمعين في حب شخصية عامة واحدة، أو بغض شخصية أخرى بعينها.
نجدهم على صفحة فيس بوكية واحدة بسبب أنهم متفقين في انطباعاتهم وآرائهم تجاه الأحداث في المجتمع أو الدولة أو المنطقة بصفة عامة، التي تؤثر بالطبع على يومياتهم والوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لهم.
نجد عدد الأصدقاء الافتراضيين "إذا جاز التعبير" مكتظ لدى المشاهير مثل الشخصيات العامة كمسئول في الدولة أو رجل دين أو كاتب أو فنانة مثلا، تلهفا في معرفة أخبارهم وتحركاتهم وآخر أعمالهم، أو ترصد إخفاقاتهم أو سلبياتهم أو حياتهم الشخصية، سواء بدافع الإعجاب الشديد، أو الغيرة أو التقليد أو الاطلاع على كل ما هو جديد في المجتمع بفضول نهم، بانتهاك صارخ للحياة الشخصية لهم.
لكن حين يكون الصديق فيس بوكي شخصية عادية، فمن الغريب أن نجد أصدقاؤه الفيسبوكين متابعين له بإعجاب أو حب أو ترصد، فيكون الاهتمام مبالغ فيه لأنه شخصية تماثلهم في الكثير ولا تختلف عنهم سوى في أسلوب الكتابة، يتزايد الفضول في البحث عن تفاصيل دقيقة عنه، وإن كانت لا تعني أحد من أصدقائه الافتراضيين، لكن لبلورة ما كونوه من مجموعة أفكار عنه، وتشكيل صورة ذهنية متكاملة عن صديقهم الافتراضي المحبوب من قبلهم.
كثيرا ما نتتبع ردود أفعاله السياسية، وكثيرا ما نتمادى فنترصد انطباعاته الشخصية، وحالته الاجتماعية، أما اللافت أن يصل نهمنا في الاهتمام به أو لنقل شغفنا به إلى الرغبة في سماع صوته لمطابقة الصوت مع الصورة لتحقيق مصداقية بينهم وبين ما يكتب ذلك الصديق فيس بوكي على الرغم بانعدام العلاقة بين الأربعة "الصديق بصوته وشكله وكتاباته.. ومتابعيه".
عالم افتراضي يتحول لعالم حقيقي في تفاعلاته مع شخصياته الواقعية، بل يصبح الصديق الافتراضي من الشخصيات المقربة لنا، وقد يتطور الوضع إلى تحول الافتراضي لواقع بعلاقات صداقة قوية أو عاطفية أو تجارية أو قد تصل لعلاقات اجتماعية.
عند تفحص كيفية تحول تلك العلاقة الافتراضية لشخصيات لم تكن لتعرف بعضها على أرض الواقع لبعد المسافات مثلا قد نجد صديقا ارتبط بعلاقة عاطفية بصديقة من دولة أخرى، أو صديقا أصبح تربطه صداقة بصديق آخر من محافظة أخرى أو قد تصل لقارة أخرى، فنجدهم كونوا علاقة إعجاب أو صداقة بسبب إتاحة فيس بوك للتواصل والتحاور والنقاش في كل أمور الحياة دون تحفظات الأسر من الاختلاط، أو بإتاحة الفرصة على اتساعها للنقاش في كثير من الأمور.
وإمكانية التعبير عن الذات في العلن التي قد يمنعنا المجتمع الشرقي من ممارستها في يومياتنا بكل أريحية، بوضوح تام وبحرية غير مقيدة، أو دون الخوف من تطور العلاقات لتصبح فاشلة أو مسيئة بسبب انتهاز البعض في الحياة الواقعية لقرب المسافات أحيانا.
نجد أن التفاعل بين الأصدقاء كان غير متوقعا في البداية لذلك العالم الأزرق، لدرجة نشرت مواقع عالمية استفتاءات عن هل يمكن أن تقابل صديقك فيس بوكي في الحياة الواقعية، وهل يمكن أنت تثق به، وهل يمكن الزواج عبر فيس بوك!
إن العالم الافتراضي فرض نفسه وأصبح حقيقة نواجهها في يومياتنا من تفاعلات وعلاقات، وبات له تأثير شخصي ومجتمعي على مستخدمي الشاشة الافتراضية، وأصبح عالم مواز بتفاعلاته وصدق علاقاته أكثر من الحياة الواقعية المصطنعة أحيانا بسبب ضغوط التقاليد وتحفظات المجتمعات الشرقية.
فلا نبالغ حين نقر بتحول العالم الافتراضي إلى عالم واقعي باستخدام أدواته التكنولوجية للتواصل بين أشخاص العالم الواقعي بوسائله الإلكترونية السمعية والمرئية والمكتوبة.
فنشأت علاقات مختلفة بدأت بالتعارف وتكوين الصداقات والعلاقات الاجتماعية، مرورا بالأعمال والتفاوض على العقود بل وتوقيعها باستخدام ما أصبح يسمى "بالتوقيع الإلكتروني".
مما جعل مستخدمي العالم الافتراضي يبحثون عن فتاوى دينية خاصة بتشريع الزواج والطلاق عبر وسائل التواصل لإضفاء وإكمال الصورة الواقعية لعالمهم الافتراضي الذي فرض وجوده في حياتهم الشخصية والعملية بأشكاله المختلفة.
كما نجد التواصل الاجتماعي الافتراضي لا تحكمه النفعية سواء المادية أو العملية أو المهنية الخ، واختفائها تجعل العلاقات أسمى في تعاملاتها الإنسانية، وأرقى في قبولها للاختلاف والنقاش وانحسار الأنا التي تفشل الكثير من العلاقات الواقعية في يومياتنا.
ولنكن منصفين في رسم صورة واقعية بإيجابياتها وسلبياتها..
قد نجد أن العالم الافتراضي كثير ما ينحرف إلى واقع سيئ بسبب الكذب وانتحال شخصية مخالفة للواقع في حقيقتها، كانتحال شخصيات وهمية أو ادعاء مهن أو مكانة اجتماعية غير حقيقية، وقد تصل إلى ادعاء الرجل أنه امرأة للولوج إلى صداقة السيدات، وقد نجد العكس فقد تدعي المرأة أنها رجل لضغوط المجتمع الشرقي عليها وحرمانها حتى من الاختلاط حتى إن كان افتراضيا.
على حافة الواقع المقيد لحياتنا بضغوطه وأحكامه، نشأ عالم افتراضي وجدنا في عمق علاقاته الكثير من الواقعية في التعامل مع الآخرين، بما يجعله ليس موازيا فقط للواقع بل منافسا له ومقتحما ليومياته ومرضي لمستخدميه.
وسأقتبس مقولة صديق فيس بوكي في الختام قائلا: الحياة تجعل الافتراضي واقعيا وتجعل الواقعي افتراضيا وأحيانا تغير كل فروضنا، بما تقدم من بدائل لحياة أكثر سعادة بافتراض واقعيتها.
