«التاتش» المصري!
تتجلى الفهلوة المصرية بوضوح في اختيارنا للأنظمة الاقتصادية التي نعتبرها الأنسب لحالتنا، نستلهم تجربة أو نظامًا، لكننا لا نطبقه إلا بعد وضع لمساتنا الخاصة، نفعل ذلك بفخر، على اعتبار أننا الأدرى بطبيعة بلادنا، ونبرر ذلك باختلاف الظروف، وخصوصية المجتمع، وعادات الناس وتقاليدهم، وبأن شعبنا ليس مؤهلا لكذا وكذا وكذا!
منذ منتصف السبعينيات اختارات مصر "الساداتية" أن تتحول إلى نظام الاقتصاد الحر، وتهجر اشتراكية عبدالناصر، التي طبقناها أيضًا بعد وضع "التاتش المصري"، اختار السادات سياسة الانفتاح الاقتصادي، وأن تكون الملكية الفردية وآليات السوق من عرض وطلب، هما عصب الاقتصاد، فعل ذلك لهدف سياسي، لا عن قناعة ترى أن الفرد هو أساس تطور الاقتصاد كما يؤمن الرأسماليون، اختار الاقتصاد وعينه على السياسة، كان الأهم عنده فقط أن يطوي كتاب عبدالناصر، وأن يقدم نفسه للغرب بوصفه حليفًا رأسماليًا يستحق الحماية!
والحرية التي يقوم عليها النظام الرأسمالي، ليست حرية اقتصاد فقط، بل هي حزمة كاملة، يكمل بعضها بعضا، فلا يمكن أن تطلق الحريات الاقتصادية، وتصادر حرية التعبير، وتمنع الإعلام الحر، لا يمكن لدولة رأسمالية أن تنهض، دون حرية تأسيس الأحزاب السياسية، ودون استقلال كامل للقضاء، وبرلمان حقيقي منتخب، وأجهزة رقابية تعمل دون قيود..
الإعلام الحر يضمن للنظام الاقتصادي الحد الأكبر من الشفافية والنزاهة، لأنه يفضح أي حالات للفساد، حرية التعبير تخلق حالة من الحوار المجتمعي المستمر وتُشعر كل فرد بأنه مشارك في صنع تقدم بلاده، وأن رأيه محل اعتبار، حتى وإن اختلف عن آراء النظام الحاكم، القضاء المستقل يسهر على حماية القانون وتحويل شعارات العدالة إلى واقع ملموس..
البرلمان الحقيقي يمارس رقابته على الحكومة، حتى لا تنحرف أو تتعسف في استعمال سلطاتها، بهذه الأدوات تضمن أن نظامك الاقتصادي يسير في الطريق الصحيح، وتقدم نفسك للمستثمر –وطنيًا كان أو أجنبيًا- باعتبارك دولة قانون، يستطيع أن يأمن فيها على أمواله، لكن الفهلوة المصرية دائمًا لها رأي آخر، فماذا فعل الرئيس السادات صاحب قرار التحول نحو الانفتاح؟
فتح السادات السوق، وفتح معه أبواب السجون، سمح بأحزاب سياسية تعارضه، لكن اختار هو رؤسائها وتوجهاتها، وأسماها "المنابر"، ربما لأنه لم يكن يطيق اسم "الأحزاب"، اختتم حياته في سبتمبر 1981 بقرار اعتقال لكل النخبة المصرية، من اليمين إلى اليسار، وكانت نتيجة "الفهلوة" على اقتصادنا هي صعود طبقة جديدة من الطفيليين الذين كونوا ثروات هائلة، من الفساد، والتهليب، وسرقة الأراضي، وتجارة السلع منتهية الصلاحية!
وجاء حسني مبارك، ليسمح بهامش من الحرية، ظل يتسع شيئا فشيئا، حتى رأينا في مصر "الرأسمالية" صحفًا تعارض الرئيس، وفضائيات تتمتع باستقلالية إلى حد ما، وبرلمانًا يضم عشرات من النواب أصحاب الانتماءات السياسية المختلفة، مع الحفاظ على أغلبية الحزب الحاكم بالطبع، رأينا وقفات احتجاجية واعتصامات وإضرابات، ومع اتساع هامش الحريات، بدأ ازدهار الاقتصاد، نشطت السياحة ووصلت إلى معدلات غير مسبوقة، تدفقت الاستثمارات الأجنبية، وصل النمو إلى معدلات جيدة ومبشرة..
جنينا كل هذه النتائج رغم حرص نظام مبارك على أن يظل هامش الحريات تحت السيطرة، ورغم أنه هو ونظامه لم يؤمنوا يومًا لا بحرية ولا ديمقراطية، لكنهم كانوا يفعلون ذلك تملقًا للمجتمع المدني في أمريكا وأوروبا، ومع ذلك كانت النتائج جيدة، لكن الفهلوة التي تفسد علينا دائمًا أي خطوة للنجاح، جعلت مبارك يوافق على سيناريو توريث نجله، وأطلق يده للعبث في الاقتصاد، فتحولت عائدات التنمية -التي تحققت بالفعل- إلى أرصدة شلة رجال الأعمال المقربين، وفي السياسة تم تأميم البرلمان، ومُنعت المعارضة من دخوله، فقامت الثورة!
لم تسأل الأنظمة المتعاقبة في مصر نفسها عن سر الاستثمارات الأجنبية التي لا تأتي، حلمنا الذي لا يتحقق بالوصول إلى معدل نمو يمنحنا بعض الأمل، خططنا الفاشلة لزيادة احتياطي العملة الصعبة الذي لا يزيد -للأسف- إلا بالمنح والودائع، الفنادق التي تفتح أبوابها تأهبًا لأفواج سياحية يبدو أننا لم نعد في قائمة اهتماماتها، تقام المؤتمرات، والندوات، يتعارك الخبراء الاستراتيجيون على شاشات الفضائيات، يسألون عن السبب: ما هو السبب.. كيف نصل إلى السبب؟
دون أن يملك أحدهم جرأة تقديم الإجابة الصحيحة والمنطقية، السبب هو "الفهلوة"!