أحمد خالد توفيق.. أسطورة «المكتبة المهجورة»
كنت أقل طولًا بمقدار نصف متر حينما توجهت قابضًا بيدي على ورقة مالية لشراء أحد الكتب الخارجية الخاصة بمنهجي في المرحلة الابتدائية.. دخلت إلى المكتبة محاولًا إيجاد مساحة لجسدي الضئيل وسط الزبائن الأكبر سنًا وحجمًا.. لم تشدني أشكال الكتب وعناوينها وألوانها بقدر رائحتها.. المكان بأكمله له هواء مختلف يميزه.. تدخل إليه فتبدأ رئتاك في التخلص من رائحة الشارع المليئة بالضوضاء والصراخ لتستعد لاستنشاق هواء المكتبة الهادئ.
وقتها كان في شارعنا مكتبة، ومقهى، ومحل بقالة.. وخلال عشرين عامًا أصبح في الشارع نفسه ثلاثة مقاهي، ومحل لألعاب البلاي ستيشن، وعدة محال للبقالة بينما أغلقت المكتبة أبوابها وامتلأت حوائطها بالأتربة حتى أصبح موضعها مهجورًا تمامًا.
في ذلك الوقت لم تكن المكتبة قد حُوصرت بالمقاهي حتى اضطرت للفرار من شارعنا وإغلاق أبوابها، لذلك استطعت الحصول على الكتاب المطلوب، بينما شد نظري مجموعة كتب أخرى حملت عنوان (روايات مصرية للجيب) فكان اللقاء الأول الذي استمر طوال عقدين مع إصدارات المؤسسة العربية الحديثة.
بالنسبة لأبناء جيل التسعينيات.. لم يكن هناك وجود للإنترنت.. شاهدنا الكمبيوتر في طفولتنا على استحياء حين لم يكن انتشاره مألوفًا، لذلك كانت الكتب بالنسبة لبعضنا هي الوسيلة الأجمل للسفر عبر عوالم أخرى.. أصبح "أرسين لوبين" للفرنسي موريس لبلان، و"شارلوك هولمز" للإسكتلندي آرثر كونان دويل، بجانب مستر بوارو وميس ماربل للإنجليزية "أجاثا كريستي" هم أبطال طفولتنا وسنوات شبابنا الأولى.. وبجانب قراءة الروايات العالمية المترجمة فقد جذبتنا شخصيات تحمل أسماء وطباعا مصرية بعد أن ابتكرها مبدعون مصريون أعطتهم "المؤسسة العربية الحديثة" الفرصة للظهور منهم د.نبيل فاروق، وخالد الصفتي، والراحل د.أحمد خالد توفيق.
كانت أعمال الأخير، وعلى رأسها سلسلة (ما وراء الطبيعة) لها جاذبية خاصة أجبرتني على متابعتها منذ منتصف التسعينيات حتى سنوات قليلة ماضية، عندما قرر د.أحمد خالد توفيق أن يُنهي حياة بطلها الدكتور رفعت إسماعيل.
يمكن الحديث طويلًا عن أعمال المؤلف الذي عاش حياته معتزلًا الأضواء، قبل أن يرحل في ضجة أحدثها بكاء محبيه، ووداع تلاميذه، ولكن تبقى بعض المشاهد التي تستحق التأمل منها التفكير في أسباب انتشار أعمال مؤلفي سلاسل (روايات مصرية للجيب) وعلى رأسهم الدكتور أحمد خالد توفيق.
بالإضافة إلى الموهبة الكبيرة للكاتب الراحل لكن يمكن القول إن أحد أسباب الانتشار الشاسع للروايات يرجع لمنظومة التوزيع الناجحة التي طبقتها "المؤسسة العربية الحديثة" حيث لم يقتصر وجود الروايات في المكتبات التقليدية -محدودة العدد- ولكنها تواجدت في مكتبات بيع الأدوات المدرسية لذلك كان الحصول عليها أمرًا سهلًا نسبيًا في ظل وجود منافذ بيع متعددة على مستوى الجمهورية منها فروع المؤسسة العربية الحديثة، والمكتبات التقليدية، وأكشاك الجرائد، ومكتبات بيع الأدوات المدرسية وغيرها.. لذلك استطاع التوزيع الجيد إيصال الرواية إلى القراء الذين شجعهم جودة المحتوى، وصغر الحجم، والسعر المناسب على استمرارية المتابعة.
استطاعت تجربة المؤسسة العربية الحديثة، التي انطلقت في التمانينيات، أن تقدم للقارئ مجموعة جديدة من الكتَّاب الشباب.. وتُطلق مئات الروايات.. لتصبح بمثابة مشروع ثقافي شجع الشباب على القراءة، وهي تجربة تستحق الدراسة للتعلم منها وتكرارها بدلًا من إضاعة الوقت في وضع مقارنات غير منطقية بين الأدب الكلاسيكي وبين أدب الإثارة والمغامرات، وهي مباراة ملاكمة وهمية بين الألوان المختلفة للكتابة بينما يستحق الجميع التواجد في المكتبات.
إذا أردنا التوقف عن الاندهاش من عزوف الشباب عن القراءة، سيكون على وزارة الثقافة أن تتعلم من تجربة "المؤسسة العربية الحديثة" وتعمل على تبني مشروع ثقافي ضخم لاكتشاف وتقديم المواهب التي تمتلكها مصر في مجالات الكتابة.. ومثلما استطاع الدكتور أحمد خالد توفيق أن يُشجع قطاعات من الشباب على القراءة ليساهم في مواجهة أسطورة "المكتبة المهجورة".. يمكن أن ندعم الآن ظهور العشرات من الكتَّاب والروائيين لنخرج جيلًا جديدًا من المبدعين لديه القدرة على مخاطبة الشباب.. عندها قد تًضاء الكثير من أضواء الأمل في المكتبة المهجورة.