«يا طالع شجرة التوت.. هات لي فرحة من اللي طاله بعيونك» (قصة مصورة)
عقب الانتهاء من درس مادة اللغة الإنجليزية بأحد مراكز الدروس الخصوصية بمدينة القناطر، وتحديدا في المنطقة المحيطة بمجلس المدينة، جمع يوسف خالد ويوسف أحمد ومحمد علاء أدواتهم وحقائب الظهر، متجهين إلى الهدف المتفق عليه سلفا، "شجرة توت مصنع الأعلاف بشارع المهندسين بالمدينة"، "الشجرة دي بتعود لنحو 50 سنة، كل عيد ربيع تيجي شوية عيال يطلعوا عليها، ياخدوا توت وينزلوا، طقس اتعودت عليه من يوم ما اشتغلت حارس للمصنع من نحو 30 سنة"، يزيح "عم إسماعيل"، الذي يأتي يوميا من مركز أشمون بالمنوفية، لمقر عمله بالشارع ذاته، أوراق التوت العالقة فوق كتفه، جراء الجلوس فترة طويلة أسفل الشجرة، يشير إلى يوسف وصديقيه، مبتسما: "أنا بستنى الأيام دي من السنة للسنة بفرح بفرحة العيال لما يهزوا الشجرة تنزل توت".
منذ نحو أسبوع، بدأ يوسف وصديقاه في إعداد الخطة، العام الحالي هم في الصف السادس الابتدائي، الالتزامات المدرسية كثرت، درس الإنجليزية يقذفهم لدرس الرياضيات، وبين هذا وذاك مراجعة العلوم؛ استعدادا للامتحان، انصرم الأسبوع الأول من الشهر المنتظر "أبريل"، ولم يتذوقا توت هذا العام من شجرة مصنع الأعلاف!
"النهاردة مكنش عندنا غير درس الإنجليزي الساعة 11 صباحا، خلصناه، وقولنا نيجي على هنا نجيب توت علشان اتأخرنا السنة دي وخوفنا يكون التوت نشف"، يتحدث يوسف، الأكبر بنيانا بالنسبة لصديقيه، والذي يبدو قائد فريق معركة اليوم، فهو وحده من تعود كل عام منذ كانوا في الصف الثاني الابتدائي أن يصعد الشجرة أولا، يتأكد أن الجذع سيتحمل أجسادهم الصغيرة، ثم يصعد الآخران تباعا.
يستقر يوسف الأكبر، فوق أعلى غصن بالشجرة متوسطة الحجم، يهز الفرع يمينا ويسارا في إحكام وحرفية، "طالع شجر التوت" المخضرم، بينما يظل محمد ذو الوجه الملائكي، والنظارة الصغيرة السميكة، وصاحب الدور الثابت، باسطا يديه أسفل الغصن، يلقف ما يقذفه يوسف، ليردد الثاني من أعلى "أوعى تاكلهم على ما نخلص!"، يبتسم الجميع، ويهز عم إسماعيل جسده ضاحكا: "كل جيل بييجي يمثل نفس المشهد، شباب كتير عدوا من هنا، كنت زمان بزعق فيهم وأمشيهم، لكن دلوقتي بيصعب عليا أكسر فرحتهم بشم النسيم والتوت".
يلحق يوسف الأصغر حجما بصديقه الآخر، بعد أن تمكن من متانة اللوح الخشبي الواصل بين غصني الشجرة، "التوت لازم يكون كتير، واحد بس مش هيقدر يجيب كل ده"، ليكتفوا بواحد فقط، لجمع ما يتساقط على الأرض.
غنيمة الساعة الأولى من أول أيام عيد الربيع عند يوسف وصديقيه، وكذا أبناء شلقان وقرية أحمد فوزي وغيرهما من المناطق المحيطة بالشجرة العتيقة، كانت قليلة، الحصيلة قرابة الثلاثين حبة فقط، جميعها من التوت الأحمر، "إحنا بنحب التوت الأحمر؛ لأنه بيكون مسكر أكتر من الأبيض"، يشير محمد إلى يديه المخضبتين بحمرة التوت، بينما يشرع الآخر في حصر ما جمعاه؛ استعدادا للخطوة التالية، انتشيا جميعا حينما جاء صوت من الخلف ينبههم لضرورة غسله قبل تناوله، "اغسلوه الأول علشان النمل هنا معشش تحت الأغصان"، يتحدث يوسف الأكبر بين ثلاثتهم، وخبير شئون شجر التوت بـ "الشلة"!
شارفت الساعة على الواحدة، وموعد درس الرياضيات في الثانية، "الدرس في القناطر جوه لسه بعيد، وكمان لسه هنروح النادي نلعب شوية"، يبدو أن شلة يوسف، قد صنعت لنفسها عيدا خاصا بها، لا تنتظر إعلان نتيجة الحائط موعد الخروج للمتنزهات والحدائق، فهاهم حملوا حقائب المدرسة، ألقوا بهم بعيدا، تفرغا كليا مما وضع فوق رؤوسهم خلال ساعتي الدرس، وسلموا أرواحهم كليا لشجرة توت مصنع الأعلاف.
انتهت وليمة هذا العام، الطقس الربيعي الثابت لدى أبناء ريف القناطر الخيرية وما يجاورها، شارف على الانتهاء، دقائق قليلة تفصل يوسف وصديقيه عن عالمهم الآخر، الذي صنعوه بأيديهم وأرجلهم وروح الطفولة التي تجعلهم أخف من ريشة أطلقها الهواء، حينما يصعدون شجرة التوت، "إحنا بنعتبر شم النسيم عيدين، عيد بينا إحنا الأصحاب، وده بيكون في الأسبوعين اللي قبل شم النسيم، أول ما نلاقي التوت استوى ووقع على الأرض، وعيد تاني بنقضيه يوم شم النسيم مع إخواتنا"، يتحدث يوسف خالد، الأخ الأصغر لأربعة إخوة اعتادوا قضاء يوم شم النسيم في حدائق القناطر الخيرية، المجاورة لمركز شلقان الذي يقطنون به، "مش بنجيب توت من هناك، التوت ده عادة بقالها 5 سنين بيني وبين أصحاب المدرسة بس".
إيديهم الصغيرة حملت بقايا البهجة وطارت بعيدا، حيث مركز شباب القناطر الخيرية، لم يتمكنا من إزالة آخر أثر لهاتين الساعتين اللاتي حاولوا قدر جهدهم خلالهما أن يحتفوا بشجرة الربيع المقدسة! ولكن على طريقتهم الخاصة، "هنحاول نرجع نجيب توت تاني يوم السبت الجاي بعد درس العربي".