الديسك الإنساني
في مهنة الصحافة زملاء مفترض أنهم على قدر عال من المهنية، يعملون بقسم معروف بـ «الديسك»، يُفترض أن له جميع الصلاحيات فيما يتم عرضه عليه من موضوعات صحفية قبل النشر، بحيث لا يجوز نشر موضوع في موقع إلكتروني أو صحيفة ورقية قبل خضوعه إلى قسم الديسك ليتناوله قراءةً وتعديلا وحذفا وإضافة وعنونةً.
قد يندلع جدل بين المعنيين بالدراسات الصحفية في مدى جواز استمرار عمل قسم الديسك -على فرض تراه تلك الدراسات بدهيًا- مؤداه: أن الصحفي محرر الخبر مؤهل تمامًا للكتابة، فيما تظل كبريات الصحف على تمسك بهذا القسم (الديسك) اعتدادًا بأن نتاج كل عمل ما هو إلا فعل بشري، وصاحبه عرضة للخطأ أيًا كان موقعه.
وبعد أن منَّ الله عليّ بالعمل في الصحافة وإن كنت ما زالت أحبو في ميدانها، وكذا في ميدان الحياة الأرحب، تبين لي يقينًا أن كل أفعالنا وأقوالنا كبشر لابد أن تخضع لمرحلة ديسك حياتي تصاغ خلاله الألفاظ جيدًا قبل التلفظ بها، وتُدرس خلاله أفعالنا جيدًا قبل انتهاجها سلوكًا عمليًا.
مضغ اللفظ جيدًا قبل التفوه به يجعل الكلمة تخرج بلسمًا يداوي مصابًا ودواءً يعالج مريضًا، وعطرًا ينشر شذى جميلا، بدلا من أن تخرج الكلمات من أفواهنا سمًا يُعجز صحيحًا، وطعنًا يجرح سليمًا وقبحًا يلوث الهواء الذي يتنفسه سائر الناس.
ليس من الأخلاق بمكان أن يلوّن الناس وجوههم بحسن الكلام مواجهةً وقبحه سرًا في حديثهم عن أنفسهم، وليس من الأخلاق أن نتفنن في ترويج الشائعات.
مطالبون نحن بأن يفرض كل منا على نفسه في تعامله اليومي ما يفرضه على نفسه الزميل بقسم الديسك بمختلف الصحف بإخضاع أقوالنا وأفعالنا لعملية فلترة.. الطعن في الأعراض والغيبة والنميمة بالمكالمات الهاتفية يمكن مع عملية "التدسيك" أن تتحول إلى تواصل لصلة الرحم والحث على الخير.
المسئولون أيضًا بمختلف المواقع مطلوب منهم "مضغ" تصريحاتهم جيدًا قبل إطلاقها في مرحلة دقيقة من تاريخ الوطن، فلا يصح أن وزيرًا يصنف الناس إلى فلاحين وصعايدة ويطعن فيهم ويحرج حكومة بأكملها في دولة مفترض أنها تدعم مدنيتها وتحضرها.. وفي النهاية ألسنا بحاجة عملية إلى عملية ديسك حياتية يومية لكل منا؟!