محمد غنيم يكتب: مات أبانا الذي في طنطا
لا نعرف قيمة الأشياء إلا بفقدها، ولا نفتقد ضوء الشمس إلا عندما تغيب، هكذا طبع البشر ما دامت الأشياء بين أيديهم حاضرة لا يلتفتون إليها، لكن الدكتور أحمد خالد توفيق الذي ولد في طنطا وتخرج في كلية الطب بجامعة طنطا وعاش بطنطا وأبى إلا أن يُدفن في طنطا، بدأت قيمته الحقيقية منذ اللحظة الأولى من إعلان خبر وفاته.
جمهور جديد كان يولد مع كل رواية يقرأها للكاتب أحمد خالد توفيق، وجمهور جديد سيولد بوفاته، لم يدرك الكثيرون قيمة أحمد خالد توفيق أثناء حياته وفجأة ومن دون سابق تمهيد جاء خبر وفاته ليسأل الجميع من هذا الرجل الذي يحظى بكل هذا الحب في قلوب محبيه، بدأت الاقتباسات من رواياته وتغريداته تعتلي جميع الصفحات، بدأ اسمه يظهر في مقدمة محرك البحث كما لم يحدث من قبل، بدأ جمهور جديد يعرف من هو الدكتور أحمد خالد توفيق.
في ساحة الكتابة من النادر أن تجد شخصا يحظى بشهرة تفوق لاعبي كرة القدم أو الفنانين، فحدود شهرة الكاتب في مصر لها سقف من الصعب تجاوزه، ستبقى شهرته في حدود معرفة قرائه به، لكن أحمد خالد توفيق قلب هذه القاعدة وكان الاستثناء الذي تجاوزها ليكتب بقلمه شهرة تتسع خارج حدود قرائه، فمن لم يقرأ له سيسمع عنه ويعرفه، سيحزن كثيرا لوفاته، ستجد على صفحتك مئات المنشورات تنعى الكاتب ربما لم يقرأ له منهم سوى عشرات، إلا أن الجميع اتفق على حبه.
أنا لست من مريدي أحمد خالد توفيق ودراويشه، ولست من نقاده أو كارهيه، فهناك من يبالغ في حبه واعتناقه لأفكاره وكتاباته، وهناك من يبالغ في التقليل من شأنه والهجوم عليه، لكنني مجرد قارئ منصف لا يعنيني سوى الجودة والقيمة الحقيقية للنص المكتوب، ولطبيعة عملي مصححا لغويا، قمت بمراجعة العديد من الروايات أستطيع جيدا أن أفرق بين الكاتب الحقيقي، والكاتب المصنوع.
إذا تعددت أخطاء الكاتب اللغوية، أفقد - لا شعوريا - الثقة بأمانته العلمية وموهبته الأدبية، فلو كان صادقًا في رسالته ومحتواه الذي يدعي قدرته وموهبته على إيصاله من خلال الكتابة، كان سيسعى جاهدًا لإتقان اللغة أولًا قبل أن يكتب، ما كان سيحتاج لمراجع لغوي يستر عورة جهله باللغة أمام القراء.
إن من أهم أدوات الكاتب هي اللغة، وقديما لم يكن الكاتب يشرع في الكتابة إلا بعد أن يتعلم ويتقن قواعد اللغة، فكيف لكاتب حقيقي أن لا يعرف متى يرفع هذه الكلمة ومتى ينصبها ومتى يجرها أو يجزمها، ولا يعرف الفرق بين علامات الإعراب الأصلية والفرعية، ولا يميز بين المتعدي واللازم، ولا يدرك الفارق بين الهاء في آخر الكلمة والتاء المربوطة، وبين همزة القطع وهمزة الوصل، وهل يكتب همزة (شيء) على الياء أم على السطر، وكيف يستخدم علامات الترقيم.
كيف لكاتب يريد أن يصل للقراء ليتعرفوا عليه من خلال كتاباته أن لا يفرق بين الجناس التام والناقص، وبين المحسنات المعنوية واللفظية، ولا يعرف الإطناب والاستعارات والتشبيه والتجسيم، والجملة الخبرية والإنشائية...إلخ.
في خضم هذا العفن المنتفش الطافح على سطح الكتابة في العصر الحديث، يظهر الدكتور أحمد خالد توفيق ليكون بريق ضوء مشع يهدم كل ما حوله لينجح بعلمه الواسع وإتقانه وتمكنه من أدواته ككاتب استطاع أن يصل بموهبته إلى قلوب القراء - لاسيما الشباب - فأعاد جيلًا كاملًا ليقرأ أدبًا حقيقيًا ينتشلهم من كل هذا العبث المترامي حولهم في صورة غلاف جميل وعنوان جذاب ومضمون فارغ لا تخرج منه بشيء.
ولأن الأشياء الجميلة تختفي وتتلاشى من حولنا ويخفت كل ضوء كنا نطمئن بوجوده ونقول ما زال في بلادنا شيء جميل اسمه فلان، فقد مات فلان، ورحل الدكتور أحمد خالد توفيق بعد أن بلغ من العمر ستة وخمسين عاما، يموت الكاتب وتبقى كلماته، وهو حيٌّ في رواياته: يوتوبيا، والسنجة، وفي ممر الفئران، وشابيب، وسلاسل قصصه الشائقة ما وراء الطبيعة والعديد من القصص القصيرة والروايات المترجمة، نحن الجيل الأقل حظًا بسرعة فقد الأشياء الجميلة، رحم الله الكاتب الطيب الخجول الكبير بفكره وإبداعه، الطفل بقلبه ونقائه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.