تُطبق الشروط والأحكام
في فيلم "علي بابا والأربعين حرامي"، بطولة على الكسار وإخراج توجو مزراحي (إنتاج 1942)، يحاول "علي بابا"، الرجل الفقير أن يحصل على رزقه البسيط من بيع الحطب، ويبتكر لذلك وسيلة تعادل حاليا فكرة العرض أو الـ (Offer)، ينادي على الحطب هو وصبيه "إسماعيل يس"، معلنا عن بيع 4 حطبات بدرهم، ومعهم حطبة مجانا، يتقدم زبون ويستفسر عن تفاصيل الـ (Offer)، ثم ينحي الحطبات الأربع جانبا، مؤكدا أنه لا يريد سوى الحطبة المجانية فقط، يأخذها وينصرف، وعندما يكتشف على بابا الساذج الخدعة، ينادي على الزبون محاولا التراجع عن الصفقة، لكن الزبون الفهلوي يقنعه بسلامة موقفه، بل ويأخذ منه حطبة مجانية أخرى!
المواطن الفهلوي موجود منذ زمن طويل، ولم يكن ظهوره مقترنا بفترة الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات كما يروج البعض، وربما نكشف في مقالات قادمة عن نماذج من الفهلوة المصرية في فترات تاريخية أقدم بكثير من زمن إنتاج هذا الفيلم البسيط بمقاييس السينما!
كانت الفهلوة هي سلاح المواطن المصري في أغلب فترات التاريخ يقاوم باستخدامها الفقر، والقمع، وتسلط الحكام، واستغلال التجار، صحيح أن هناك من حول الفهلوة إلى جرائم نصب مكتملة الأركان، لكن كان هناك من يستخدمها ليتحايل على ظروفه فقط!
ربما نكون الشعب الوحيد في العالم الذي استخدم– خلال التسعينيات– أغطية زجاجات المياه الغازية كبديل للعملة المعدنية، لإجراء اتصالاته، عن طريق كبائن تليفونات الشارع التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، وعندما عرف المصريون بطاقات الائتمان البنكية (credit card)، كان المواطن الفهلوي يستخرج بطاقتين من بنكين مختلفين، يسحب الأموال من إحداها، وعندما يحل موعد السداد، يسحب من رصيد البطاقة الأخرى ليسدد مديونية الأولى، وهكذا...
على المستوى السياسي، رأينا المواطن الفهلوي، يحصل على ثمن صوته الانتخابي من أحد المرشحين، في شكل نقدي، أو عيني (سلع تموينية)، ويدخل إلى اللجنة فيمنح صوته للمرشح المنافس انتقاما ممن اشترى صوته!
اخترع الفهلوي المصري "وصلة الدش"، لمقاومة استغلال حيتان الإعلام والفضائيات، خاصة فيما يخص القنوات المشفرة، واشترك الجيران في "راوتر إنترنت" واحد، للتحايل على الأسعار المبالغ فيها لخدمات شركات الاتصالات، رغم أن كل عقود تلك الشركات تحظر ذلك، وتعتبر الخدمة خاصة بالعميل المتعاقد فقط!
ومثلما تطورت أساليب المواطن الفهلوي، تطورت أيضا خطط الطرف الآخر، حتى لا يكون ضحية سهلة لخبراء الفهلوة، وبتعبير أوضح، لم يعد التجار أصحاب العروض، ومقدمي الخدمات، مثل على بابا الساذج، واستفادوا جيدا من خسارته الفادحة وإعلان إفلاسه، بل وإقدامه على الانتحار كما نرى في أحداث الفيلم..
فالمرشحون الذين يشترون أصوات الناخبين، باتوا يلجأون إلى خطط محكمة تضمن وفاء المواطن الفهلوي بالتزامه، ورأينا من يشترطون على الناخب الذي يبيع صوته، أن يصور استمارة التصويت ليحصل على المقابل، وكان بعضهم يمنح الناخب نصف الورقة المالية المتفق عليها، ولا يفرط في نصفها الآخر إلا بعد مشاهدة صورة استمارة التصويت..
وطبقت شركات الاتصالات نظام الكارت المدفوع مقدما، بعد أن كان الهاتف المحمول في بدايته يعتمد على نظام الفاتورة الشهرية، فاشترى آلاف المواطنين الفهلوية خطوطا، استخدموها، حتى تراكمت الفواتير عليها فألقوها في النيل..
أصبحت البنوك تتعامل مع العميل باعتباره "فهلوي" إلى أن يثبت العكس، ووضعت في سبيل ذلك ضوابط دقيقة تضمن وفاء العميل بالتزاماته، وحتى عندما تطلق البنوك حملات إعلانية ضخمة، تروج فيها لقروض وتسهيلات بشروط ميسرة، تلجأ إلى عبارة حاكمة تكتبها بخط صغير في ذيل الإعلان تقول "تُطبق الشروط والأحكام"، حتى لا يطالبها مواطن فهلوي بتنفيذ عروضها السهلة الميسرة حرفيا كما وردت في صيغة الإعلان، وهي عبارة عبقرية ولها القدرة قانونا على نسف أي عروض أو تيسيرات وردت في متن الإعلان..
كل الأطراف حاولت الاستفادة من مأساة "علي بابا" في فيلمه الساذج، الزبون الفهلوي طور أدواته، والتجار اجتهدوا في وضع خطط التأمين، واصطياد العميل بعد تقليم أظافر فهلوته، وتحويله إلى مواطن أليف، قابل للاستغلال!
كان مصير علي بابا المسكين سوف يختلف بالتأكيد، لو أعلن عن عرض "الأربع حطبات بدرهم وحطبة مجانا"، وكتب على الحطب بخط صغير "تطبق الشروط والأحكام"!