رئيس التحرير
عصام كامل

الرقص مع الذباب!


دخل للصيدلية في عِز العاصفة الترابية، وتخيَّلت أنه سيسأل الصيدلي عن كمامة أو دواء للجيوب الأنفية، وربما عن دواء للكُحة أو الحكَّة لا فارق، لكنه سأله بكُل جدية والغم مرسوم على ملامحه: عندَك مُعارضة سياسية؟ الصيدلي لم يكُن خريج كُلية صيدلية، فمُعظم الصيدليات تعتمد مُنذ دهر على حاملي دبلومات التجارة، لأن مرتباتهم منخفضة من ناحية، ولأن مُعظم السادة الصيادلة المُتخصصين لا يقبلون بمهنة البائع من ناحية، وبالتالي فمفيش أي مُشكلة أن بتاع دبلوم التجارة يتمرَّن شويتين على الحقن والفتي، ومن ثم يكون في استطاعته أنه يصرف مقوي جنسي لمريض قلب على أنه ڤيتامين!


المُهم أن الصيدلي -ومش عارف إذا كان دكتور صيدلي حقًا أم دكتور دبلوم فكُلهم بيتقال لهم يا دكتور وبيفرحوا - أجاب حضرته: لا والله، مُمكن تسأل في الكشك اللي على أول الشارع، ومن هُنا تأكدت أن الرجُل مُحترم وقادر على التفريق بين واجبه كصيدلي ومهنته كبائع، خصوصًا إنه كان مُمكن يهدئ الزبون بمُخفض سريع للحرارة كأقماع اللبوس مثلًا، بس من الواضح أن هذا الصنف أصبح شحيحًا بعدما ارتفعت الحرارة بشكل جماعي للغاضبين الناقمين الثائرين على الانتخابات الرئاسية!

وقبل الاسترسال في الموضوع تعالى نتفق على حاجتين أنا وأنت والصيدلي وصاحب الكشك والأخ اللي عايز مُعارضة سياسية ومُستعد يدفع أي عدد مطلوب من ساعات الزعيق والتنظير ولو اتطلب منه يشلَّح ويجري في الميدان هيعملها؛ أولًا من حقك تشارك في الانتخابات ومن حقك تقاطع، ثانيًا من حقك لو شاركت أن تختار مَن تشاء من المُرشحين الاثنين أو تبطل صوتك، ولا يحق لك أبدًا لو قاطعت أن توجه أي انتقاد للمشاركين أو لمَن صوَّت على غير مزاجك..

كما أنه من حقك لو شاركت ألا تنهب حق المُقاطع في أنه ميروحش اللجان، ولا يحُط صوته في صندوق، هو حُر يا أخي، وطالما ارتأى أن صوته سيكون مُفيدًا أكثر لقضيته لما يحطه في زوره خلاص براحته، حتى لو أنت شايف إن كده غلط، فهو في النهاية زوره وليس زورك أنت، ولو وجعه هيوجعه هو مش إنت!

لكن تبقى المشكلة في غضب وقمصة كُل مَن قرر مُقاطعة الانتخابات، لأنه شايف أن الديمقراطية لا يُمكن أن تتم إلا عندما يفرض هو رأيه كأقلية، يعني الديمقراطية حلوة لما يتنفذ اللي هو عاوزه بس، إنما كُل ما ضده هو الديكتاتورية حتى لو كانت الأغلبية معاها، وكنت أنتوي عنونة المقال باسم: الرقص مع الذئاب والرقص في اللجان، لكن وجدت أن الأفضل له هو ما قرأته حضرتك بعاليه:

الرقص مع الذباب؛ والسبب أن مُعارضي الانتخابات أصبحوا ملزَّقين مثل الذباب بعدما اتشعبطوا في موضوع رقص بعض النساء أمام اللجان وهاتَك يا طعن في الانتخابات والجيش والشعب والشرطة وثورة يونيو، وسابوا الديمقراطية والتصويت ورأي الأغلبية وضربوه بالنار، طالما أنه مش على هواهم!

إذن المُعارضة السياسية اللي بيدوَّر عليها صاحبنا لا موجودة في صيدلية ولا في كُشك، لأ، لأن الدولة بتحاربها ولأ علشان تضييق الخناق عليها والكلام الفاضي ده، فهمهما كانت القبضة الأمنية قوية حاليًا فهي لن تكون أبدًا بقوة القبضة الأمنية قبيل ثورة يناير، ومع ذلك قامت الثورة ونجحت بعض الشيء قبل أن يسرقها حرامية الثورات والدين، ولماذا نجحت الثورة في الاندلاع رغم القبضة الأمنية الخرافية وقتها؟ لأنها كانت مدعومة بالناس، بالشعب، لا بجماعات إرهابية مُجرمة، ولا بشوية شمامين كُلَّه من بتوع التنظير على الفضائيات، فأمثال هؤلاء لو نزلوا لوحدهم من غير الشعب كانوا انسحقوا كما عقب سيجارة فاسد منتهي الصلاحية!

يعني المعارضة السياسية تعتمد أكثر ما تعتمد على الوجود بين الناس، لا الوجود في چيتو منفصل عنهم والتنظير عليهم، بل وتوجيه السباب لهم علشان نزلوا الانتخابات مع اصطياد مشهد الرقص كذريعة للهجوم، بالمُناسبة أنا لا مع ولا ضد الرقص، وكُل واحد حُر، لكن لا يمكن اختزال مشهد الانتخابات الرئاسية في الرقص اتساقًا وانسياقًا خلف تعاليم الإخوان والثورجية آه يا لالالي، وهو اختزال يشبه اللي بيختصروا الأهرامات وعظمتها في شارع الهرم لوحده، أو أخواننا اللي مش بيشوفوا في المرأة غير أنها وعاء جنسي، ومش كُل اللي نزلوا الانتخابات رقصوا، ولا كُل اللي رقصوا انتخبوا، ولا كُل اللي انتخبوا إشراف، ولا كُل الإشراف قاطعوا، ولا كُل اللي قاطعوا بيفهموا، ولا كُل اللي بيفهموا بيتكلموا!

الرقص أيام ميدان التحرير كان جميلًا، وكان وسيلة سامية للتعبير عن فرحة الشعب، أما الآن فهو في نظر (بتوع وسيلة سامية) قلة أدب ومسخرة وضد الأخلاق، فجأة تحوَّلوا بتوع المُعارضة من حيث المبدأ، مُعارضة الغاية لا الوسيلة، إلى حُماة للأخلاق لأنهم عايزين أي تفطيس في أي طريق، والمُشكلة أن المحموقين للأخلاق هؤلاء هُم أنفسهم مَن شتموا العجائز وكبار السن، وهُم مَن قاموا بنشر صورهم أثناء الوقوف في طوابير الانتخاب مع تعليق اجمعوا عليه "لما إنت عندك 60 سنة وقادر تقف ساعة في طابور الانتخابات، لو شوفتك في الأتوبيس أو المترو مش هقوم وأقعدك مكاني، وهقول لك اعتبر نفسك واقف مستني الصندوق".. يعني مُنتهى الانحطاط الأخلاقي من دُعاة الأخلاق!

الأنقح من كده أن الرقص كوسيلة للتعبير عن الفرحة أو حتى كيد الأعداء لو لم يتم، وأنا أؤكد لست ضده ولا معه، لكني ضد الحَجر على الناس خصوصًا مع الكيل بمكيالين من جانب المنظراتية، الأنقح أنه لو الناس راحت اللجان عادي، ووقفت عادي، ودخلت صوتت وخرجت من غير ولا كلمة، كانوا نفس المتربصين هيقولوا الناس رايحة غضبانة وزعلانة وعليها الغَم إزاي، يعني يضحكوا تقولوا مسخرة، يرقصوا تقولوا قلة أدب، أما أخواننا بتوع الحرام والحلال والرقص حرام، فأكيد الحرام الأكتر من الرقص هو إزهاق الأرواح وقتل الأبرياء تحت راية الدين، لكن لأن هذا يتم على الهوا فمفيش مشكلة!

لست مع الرقص، لكن كمان لست مع الكذب والتضليل وديكتاتورية الأقلية وفرض الوصاية على الشعب، ولست مع التثور والتنخُّب الفارغ، ولست مع ساقطي الأخلاق سبابي كبار السن، وأقسم لك بالله سمعت بوداني وشوفت بعينيا ناس من هؤلاء بيوجهوا السباب الصريح لآبائهم وأمهاتهم بداعي أنهم منبطحين للدولة، فهل مُمكن اللي يشتم أبوه وأمه يحب بلده أو يحترم شعبها؟ يا راجل ده الوفد الأمريكي نفسه رقص!

وبعودة للصنف غير الموجود (المُعارضة السياسية)، فالمعارضة السياسية عاوزة وعي، وعاوزة وطنيين مش قبيضة وعُملاء، المعارضة لا تعني أنك تبيع الوطن في أول أزمة، أو تتمنى له الشر، أو تهلل لما تيجي أنباء عن تحرك الأسطول الأمريكي تجاه السواحل المصرية كما رأينا سابقًا، أو تستقوي بالخارج ضد وطنك، أو تشتم جيش بلدك وتساند الإرهاب ضده، أو تقعد في الميدان وتقول على كبار السن اللي معاك أبو الثوار، وعم الثوار، وخالة الثوار، بينما لما يكونوا الكبار مش معاك يبقوا ولاد قديمة!

المعارضة السياسية لا تعني أن أم (خالد سعيد) تبقى أم الشهيد اللي محصلش، بينما يتم الطعن في أم (منسي) وأم (خالد مغربي) وأمهات أبطالنا اللي بجد اللي ضحوا بحياتهم علشان إحنا نعيش ونلاقي اللي بيشتم فينا وفيهم، مش الأبطال اللي راحوا علشان البانجو.. المُعارضة السياسية لا تعني أنك تتهم وطنك بقتل (ريچيني)، وتحارب اقتصادنا، وتلزق زي الذبابة في أي مصلحة فيها خراب الوطن، وتقف بالمرصاد لأي محاولة لإصلاحه، ولا حتى تنقطنا بسكاتك.. المعارضة السياسية لا يشترط أن يكون صاحبها مُصاب بداء العظمة ولا الكذب ولا بالبواسير، فياريت تهدوا شوية حرصًا على أنفسكم!

*** بعد المقال: كان هذا هو المقال رقم 200 للعبد لله على بوابة "ڤيتو" العزيزة، التي بدأت الكتابة فيها قبل 4 سنوات بالتمامً.. أرغب في توجيه الشُكر لكل السادة الأجلاء أساتذة وزملاء كرام، وبالتأكيد القُرَّاء الأعزاء.. أستأذنكم في إجازة لترتيب الأوراق.. ونلتقي على خير بإذن الله..

الجريدة الرسمية