الفواعلية في زمن التعويم.. موال الغربة في انتظار الرغيف.. معاناتهم تزداد بعد نحو سنة ونصف السنة من قرار تحرير سعر الصرف..عامل : «اليومية وصلت إلى 120 ومفيش شغل».. وخليفة: شهادة أمان لا تكفى
تبحث عنهم بين وجوه العابرين في ميدان الجيزة، وما يتفرع منه من شوارع وحوارٍ وأزقة، قد لا يعرف مداخلها سواهم، مئات يرتدون الجلباب الصوف والشال الأبيض، ويجلسون خلف معدات الهدم والبناء، أسلحتهم في العمل، كل يعرف وجهته وإلى أين سيذهب هذا اليوم، أي رصيف سيحمل جسده المنهك الذي يبدو ساكنا رغم صرخاته الداخلية.. إنهم الفواعلية وعمال البناء الذين يعيشون تحت حد الكفاف بعد ما يقرب من سنة ونصف السنة من التعويم، الذي زاد معاناتهم أكثر وأكثر، رغم محاولات الحكومة التخفيف من معاناتهم عبر طرح شهادة أمان وبحث إضافتهم للتأمين الصحى.
من الفجر للمغرب
“أنا هنا من الفجر لحد المغرب مبتحركش من مكاني، أجيب اللقمة وأرجع أقعد تاني، على أمل ييجى زبون يطلب هدم شقة، حمام، أو حتى نقلة أسمنت”.. بملامحه الصعيدية الأصيلة والسمرة اللامعة من كثرة التعرض لأشعة الشمس، يتحدث أشرف ابن قرية “بنى شقير” التابعة لمدينة منفلوط بمحافظة أسيوط، مضيفا: “70% مننا هنا من بنى شقير، كنا في ليبيا بنشتغل فواعلية وكهربائية، ومن يوم أحداث إخواتنا الأقباط جينا مصر، وآدى حالنا من وقتها”.
وفى مكان آخر، ليس ببعيد عن ميدان الجيزة، وجدنا أكثر من خمسة عشر شخصا يلتفون حول المقعد المثبت بين أكوام القمامة بشارع المستشفى بفيصل، يتشاورون ويتجاذبون أطراف الحديث، حول خمسة عشر جنيها تحصل عليها محمود بعد توقف عن العمل دام نحو عشرين يوما، “أنا حملت عربية موز لفكهانى جنبنا أخذت 15 جنيها، وبيتحيلوا عليا نقسمهم على بعض!”.
كثيرا ما يصدع البعض رؤوسنا بمصطلحات معلبة على شاكلة “العمالة غير المنتظمة”، “معدومى الدخل” وغيرها من المصطلحات التي يخرج بها علينا!، أما في شارع المستشفى فثمة واقع موازِ لواقعهم، مجموعة أفراد يتقاذفون ثلاث ورقات فئة الخمسة جنيهات، “أهو أنا أديلى 18 يوما من غير شغل، جيبى فيه 20 جنيها، هصرفهم واللى في البلد دول عشاهم على ربنا، العيشة غليت من يوم ما عوموا الجنيه، اليومية ارتفعت من 70 لـ 150 جنيها لكن مفيش شغل”.
العائدون من ليبيا
يحسم الجدل والنقاش، كبيرهم الحاج جمال، ابن محافظة سوهاج، الذي جاء إلى مصر منذ أربعين عاما للعمل في المهنة ذاتها، يتابع قائلا “الناس دى كلها من يوم ما وعدوها بأنها يوم ما هترجع من ليبيا هتلاقى شغل وهما منتظرين”، ثلاث سنوات ومازالوا ينتظرون، كل يوم يحملون العدة ذاتها، الشاكوش والمطرقة والمسامير، يبحثون عن المربع ذاته، يتصلبون تحت الأشجار وأسفل أعمدة الإنارة.
“أنا لو فتحوا باب الهجرة لأى دولة هسافر، أي بلد فيها أكل عيش أنا قتيلها”، يخرج أحدهم عن صمته وترقبه لما يحدث حوله، متلفظا بعبارة قصيرة، ليصمت بعدها حتى انتهاء اللقاء، ما إن ينطق بهذه العبارة حتى يصدق على حديثه الحضور جميعهم، “إحنا تعبنا حابين البلد وغالية علينا لكن هي طاردة ومش راحمة الغلابة اللى زينا”.
يتحدث صبى في الخامسة عشر من عمره، جاء إلى القاهرة، برفقة والده ليرث المهنة ذاتها، يتعلم “أصول الصبر”، كما يقول والده، فإذا أردت أن تتعلم كيف تعيش على أمل يراودك كل صباح عن نفسك، فتلبى نداءه، تسرع إلى المكان ذاته، تبحث عن الوجوه ذاتها، ولسانك تأهب وتهيأ لعبارة “إيه يا باشا عندك شغل ؟!” نحو 2000 شاب وكهل يأتون إلى ميدان الجيزة وما يجاوره للسبب ذاته.
إذا سألتهم ما رأيكم في وثيقة أمان التي خصصتها الدولة لكم ولغيركم من المنتمين لفئة العمالة غير المنتظمة، ينقسمون حينها إلى فئتين، فئة الشباب الذين تابعوا عن كثب آخر مستجدات الوثيقة، وهؤلاء يرفضون الحديث عنها بالأساس، وفئة أخرى تتساءل “إيه وثيقة أمان دي.. هتأكلنا إحنا وعيالنا يعني؟!”.
3 ملايين عامل
ما يقرب من 3 ملايين عامل في مجال المعمار دون رخصة تابعة لهيئات البناء والتشييد، وفقا لما أكده شعبان خليفة، رئيس النقابة العامة للعاملين بالقطاع الخاص، والذي كشف وجود نحو 6 ملايين عامل تحت فئة العمالة غير المنتظمة، نصفهم يعملون في مجال المعمار، الذي يعتمد على العضلات والخبرة، وكلاهما غير دائمين، مما يعرضهم للموت في أعمار مبكرة: “هؤلاء ليس لهم صفة ولا أمان، هم منتشرون في ميادين مصر معرضون في أي وقت لحوادث قاتلة، محتاجون ضمانا ومعاشا لهم، وثيقة أمان لا تكفى وحدها، فلابد من إنشاء صندوق لحماية هؤلاء الأفراد”.
"نقلا عن العدد الورقي.."