رئيس التحرير
عصام كامل

شقيقة صلاح جاهين تتحدث عن كواليس «صباح الخير يا مولاتي»: «السندريلا أخرجته من حالة اكتئاب»

فيتو

"صباح الخير يامولاتي.. ياماما.. يا أما.. يا أماتي.. أبوس الإيد وقلبي سعيد.. يا أول حب في حياتي يا أمي".. 
لم تكن تلك الحروف مجرد كلمات في أغنية لشاعر كبير، ومطربة وممثلة عظيمة، بل أيقونة فنية، أثرت المكتبة الغنائية العربية، تبدو بسيطة وتلقائية، إلا أنها تحمل بين طيَّاتها فلسفة خاصة، عبر عنها صلاح جاهين بإبداع، كشفت عن علاقة استثنائية بين الشاعر وأمه، فكانت بمنزلة الأمل الذي ولد من رحم الاكتئاب.


الساعة الثامنة مساءً، دق هاتف منزل أحمد حلمي باشا، - الذي حمل اسمه موقف أحمد حلمي - بحي شبرا، حيث يسكن الحفيد محمد صلاح الدين بهجت «صلاح جاهين»، أحد شعراء العامية ورسامي الكاريكاتير الأفذاذ، بينما هو عاكف على كتابة أحد أعماله، تخبره زوجته منى قطان: سعاد على التليفون، يترجل مسرعًا قاصدًا الهاتف، وقد بدا على وجهه وجسده الذي نحل بسبب المرض الشديد، يدور بينهما حوارًا ودودًا كالعادة.. «السندريلا»: «ممدوح الليثي طلب مني أغنية ينتجها التليفزيون المصري بمناسبة عيد الأم، وأنا صممت أنك تكتبها»، لم يتردد «جاهين» للحظة ولكنه طلب أن يلحنها الموسيقار كمال الطويل، رفيق الدرب نحو النجومية والتميز.

«علشانك النهاردة الدنيا كارت معايدة.. ملى الربيع أركانها بمليون ألف وردة».. أجواء مارس المبهجة في حي الزمالك، حيث منزل سعاد حسني ودفء الصحبة والانسجام، الذي ميز جلسات العمل بين الثلاثي العملاق، أنست «العصفور الحزين» هزيمته النفسية واكتئابه الذي لازمه منذ نكسة يونيو ٦٧ واشتد عليه عقب وفاة جمال عبد الناصر، واستمر حتى مماته في أبريل ٨٦، فشقاوة السندريلا وأوتار عود أسطورة النغم «الطويل»، ورشاقة كلمات «جاهين»، مقومات كفيلة أن تصنع أنشودة الحب الخالدة.

بهيجة بهجت، الشقيقة التي تصغر «جاهين» بعامين والمقربة إليه تحكي كواليس الأغنية: "لم تأخذ كلمات الأغنية أيامًا من صلاح، رغم أنه اعترف أكثر من مرة أنه كسول وهو ما يجعله ينتظر للحظة الأخيرة لإنجاز أي عمل يقوم به، إلا أنه كان متحمسًا جدًا لهذه الأغنية، فهو الابن المقرب لأمه وللسندريلا أيضًا، كان لها بمنزلة أب روحي وفني، نتاج علاقة صداقة وعمل استمرت ١٤ عاما منذ أن تقابلا في أحد مستشفيات العاصمة الروسية موسكو، بصحبة المخرج العالمي يوسف شاهين".

للفنان شريف منير، دور آخر داخل كواليس هذه الملحمة الغنائية، فقد كان الملازم لجاهين في الأشهر الأخيرة من حياته، ولما كان «جاهين» لا يحب قيادة السيارات، وقع على عاتق شريف هذه المهمة، يهاتفه يوميًا: شريف فوت عليا بعد التصوير عايزين نروح لسعاد، كان حينها يصور مشاهده الأولى من مسلسل بكيزة وزغلول، فكان يستقلا سيارة عيلة الشاعر، حيث منزل السندريلا أو إلى البلاتوه أثناء تصوير مسلسل «أنا وهو وهي»، -آخر سيناريو له-، الذي كان حريصًا على حضور البروفات وتصوير حلقاته دعما لصديقيه أحمد زكي وسعاد حسني.

في هذه الأثناء أيضًا، طُرح مشروع أغنية، ينتجها التليفزيون بمناسبة عيد الأم، يصف شريف منير، صلاح جاهين الذي تبناه وجدانيًا، أنه في هذه الفترة وبخاصة بعد سفريته العلاجية الأخيرة، كان صامتًا، مكتئبًا يبتعد عن الناس إذا اشتد عليه الحزن، خشية أن ينزعج محبيه من الحالة التي وصل إليها، ولكنه سرعان ما تعود إليه براءته وابتسامته بمجرد أن يلتقي بسعاد والطويل، وهو ما انعكس على كلمات الأغنية وروحها.


ذات يوم، وقف «جاهين» عقب الانتهاء من تسجيل «صباح الخير يا مولاتي»، أمام مرآة مستديرة بالقرب من باب المنزل، بعدما استعد للذهاب إلى لقاء السندريلا، قبل أيام من وفاته، وسرح في تعبيرات وجهه وحجمه الذي فقد جزءا كبيرا منه بسبب مرض السكري وهذا ما زاد من حزنه، صمت دقائق يتأمل هيئته، ثم ردد :" فقدت روح الفكاهة.. فقدت روح الداعبة..أنا مش أنا" وانصرف في هدوء إلى سعاد.

تجربة صلاح جاهين الفنية، لايمكن أن تمر دون البحث والتفتيش عن علاقته بوالدته، والتي يبدو أن لها نصيب الأسد، في بلورة شخصية صاحب الرباعيات، تقول شقيقتهبهيجة :" أمي أول من آمنت بموهبة صلاح التي ظهرت مبكرًا، ولاسيما أنها تخرجت في مدارس إنجليزية، وعملت بالتدريس، قبل أن تتفرغ لتربيتنا، وظلت معلمته الوحيدة داخل المنزل فترة طويلة، وكان صلاح في ساعات الدرس دائمًا يقول مداعبًا: أنا أخدت كل عقاب أطفال المدرسة لوحدي".

وتواصل بهيجة ذكرياتها عن علاقتهم بوالدتهم:" إلى جانب تعليمنا، كانت والدتي تقص علينا روايات الأدب الإنجليزي بطريقة مبهرة، ليس ذلك فحسب، بل كانت أم ثائرة ذات نزعة وطنية منذ الصغر، إذ أصرت أثناء دراستها أن تقابل سعد زغلول في منزله بعد أن اصطحبت معها معطفًا من الصوف حاكته ليرتديه، ونجحت بالفعل، وهو ما انعكس فيما بعد على محمد صلاح الدين بهجت أكبر أبناءها".

لحظات صمت تسترجع فيها «بهيجة» الذاكرة لتعاود الحديث مستطردة:" كان أبي يعمل في السلك القضائي، وكنا ننتقل من محافظة لأخرى، قضينا نحو ١٢ عاما في الريف، وهو ما شكل الجزء الأكبر من شخصية صلاح، بدأ يصنع بيوتًا من الطين والماء وبعض السعف وورق الشجر، وكان لأمي الفضل في تنمية موهبة الرسم والنحت وحتى كتابة السيناريو والتمثيل إلى جانب الشعر، ولكن في أوقات العطلة والإجازات الرسمية حتى لا تنتقص مواهبه من مستواه الدراسي».


تتذكر الشقيقة: "أول هدايا صلاح لأمه، كانت قرط صنعه على هيئة قلب من عيدان الذرة بعد تهذيبها وتأهيلها، لونه بطلاء الأظافر، كانت من أسعد لحظات أمي عندما دخل عليها بوجهه الهاديء البريء ليقدم لها هذه الهدية، التي احتفظت بها حتى وفاتها».

احتلت السيدة أمينة حسن، والدة «جاهين» مكانه خاصة في قلبه وعقله، فكانت الملاذ وقت الضيق، والمرشد والموجه لحظة التشرذم والشرود، توفى الأبن وظلت الأم بعده خمس سنوات تخلد ذكراه، وتحفظ سيرته وأعماله، فلم تتوقف أبدًا عن الحديث عنه، ما تبقى في عمرها من سنوات بعد رحيله.

تقول بهيجة :" أمي ظلت تذكره في أي اجتماع ومع كل مناسبة، كنا نخشى عليها بعد وفاته، فالجميع يعلم قربهما الشديد وعلاقة الصداقة التي نشأت بينهما منذ نعومة أظافره، إلا أنها كانت متماسكة وقوية، كنا نبادر في تغيير قناة تليفزيونية، أو غلق التلفاز تمامًا في مرة تعرض فيها، أغنية صباح الخير يا مولاتي، إلا أنها كانت تصر على سماعها واستكمالها، وتقول في شجن: "من فضلكم سيبوها دي من ريحة الحبايب، حتى في لحظات الموت شاء القدر أن يجعلها علاقة خاصة حتى النهاية، فتوفيت الأم يوم ميلاد ابنها النابه، الذي استقبل الحياة وخاض تفاصيلها بروح طفل صغير، كانت فيها ملهتمه وسيدته الأولى.
الجريدة الرسمية