رئيس التحرير
عصام كامل

في حضرة «السرطان».. ضحكة أم تنور دنيا

فيتو

في الثانية عشرة صباح الأربعاء قبل الماضي، جمعت "أم سلوان"، الأربعينية ابنة محافظة الأقصر، مستلزمات رحلتها المعهودة للقاهرة، ملابس النوم وحقيبة العلاج الكبيرة، مشطت شعيرات سلوان القصيرة، التي ما لبثت أن نبتت من جديد بعد أن انقطع سريان مادة "الكيماوي" من جسدها: "سلوان تعافت من سنة وإحنا دلوقتي في فترة المتابعة".


12 ساعة هي المسافة التي يقطعها قطار الصعيد الجنوبي القادم مسرعا إلى القاهرة، إغفاءة قليلة واستيقاظ من جديد، نظرة ثابتة تبحث عن اللوحة المعدنية التي باتت الهدف الأول والأخير منذ عشر سنوات "مدينة القاهرة"، ثم رحلة قصيرة إلى مستشفى سرطان الأطفال بالسيدة زينب.

عبارات روتينية يلقيها الطبيب المعالج على مسامع أم سلوان، تصل ما قطعته الظروف من آمال وأحلام بغد "بلا سرطان"، عيد أم بين الأهل والأبناء، وابتسامة طفلة لا يرهقها وخز الإبر وجلسات الإشعاع المغناطيسي.. هكذا يبدو الحال في هذه البقعة الصغيرة التي جمعت أم سلوان بأمهات أخريات، تعددت ملامحهن ووجهتهن ما بين الإسكندرية والصعيد، "دمياط والشرقية"، إلا أن القدر جمعهن في مكان واحد وظروف واحدة، "دار استضافة الأطفال مرضى السرطان بالتجمع الخامس".. 


يقولون إن وجود الأم في ركن ما بالعالم، يعد الخيط المتين الذي يربط بين ابنها والحياة، فما دامت باقية تعلو وتهبط أنفاسها، يشعر وليدها ــ وإن خط المشيب رأسه ـ أنه مشدود الظهر قوي البنية، فما بالك إذا كانت هذه الأم هي "أم سلوان"؟!، تلك الصعيدية السمراء التي أصبحت عين طفلتها التي لا ترى، بعد أن ضغط الورم السرطاني على عصبها البصري، فحال دونها ومعالم الأشياء حولها: "سلوان جالها السرطان وهي عندها 5 سنين، كان في المخ ومع الوقت ضغط على العصب البصري، بتشوف بنسبة 10%، أنا عنيها وأيديها وكل حاجة في دنيتها، والدها توفي ومن وقتها بقيت كل حاجة لي بالدنيا".

منذ مساء الإثنين حضرت سلوان ووالدتها إلى دار رعاية مرضى السرطان في منطقة التجمع الخامس، لقضاء مدة العلاج الشهري، قبل العودة إلى الأقصر مجددا، في انتظار رحلة الشهر المقبل.

تنظر أم سلوان إلى نتيجة هاتفها الجوال، "إحنا هنمشي من هنا الخميس بالليل، يعني يوم 22 مارس، وده معناه إني هقضي عيد الأم ده كمان هنا أو في المستشفى"، تقاطعها سلوان قائلة: "هشتري لك الهدية من مصر مش لازم نكون في الأقصر"، نظرة حانية وعناق قصير، يجددان ما ذبل بفعل الورم السرطاني.



"وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي"، هذه العبارة حينما كتبها الشاعر الفلسطيني "محمود درويش" في وقت حالت جدران سجون الاحتلال بينه وبين أمه، ترددها عينا "آدم" الصغير، ويده التي تربت على كتف أمه، ولسانه الذي عجز نصفه بفعل الورم السرطاني، حينما يردد: "شكرا يا أمي ربنا يخليكي ليا.. كل سنة وإنتي طيبة".

بينما تحاول أمه أن تقبض على دمعة، تغالبها وتسقط على شعر الصغير: "آدم عنده ورم في المخ من أربع سنين، اكتشفناه متأخر، وده تسبب في إنه يصاب بشبه شلل خلاه مش بيتكلم بوضوح، لازم أكون جنبه وأوصل صوته للي حواليه".. تتحدث أم آدم التي جاءت إلى دار الرعاية من محافظة الإسكندرية، للمكوث بها حتى انتهاء فترة العلاج الشهري: "أنا هقضي عيد الأم هنا زي كل سنة من وقت تعب".



في الغرفة رقم 20 بدار استضافة مرضى السرطان، تجلس السيدة أماني ابنة محافظة الإسكندرية، وأمامها عروس في عمر السابعة عشر، تمشط شعرها وتضع فوقها الحجاب، بينما يبدو على وجه الفتاة علامات الإرهاق والإعياء الشديد، بعدما استحال لون الجلد إلى الأزرق الباهت: "خلود بنتي عندها سرطان من فترة قريبة، كل شهر بنيجي القاهرة علشان جلسات الكيماوي، ونقعد هنا في الدار لحين انتهاء فترة العلاج".

أماني تبدو أكثر تماسكا مقارنة بجيرانها بالغرف المجاورة، ما زالت عيناها تبحثان عن بقايا أمل في شفاء سريع، وعودة أبدية إلى حضن الأحباب: "أنا ببعد عن ولادي كتير ونفسي بنتي تخف وأرجع ألمهم حولي من تاني".



في حديقة الدار حيث تصطف الأرجوحة بجوار المقاعد الخشبية، في مشهد يبدو من بعيد لا يمت لواقع هؤلاء النسوة وأبنائهن بصلة، يجلسن ويتسامرن ويتجاذبن أطراف الحديث، بينما يلهو الأطفال أصحاب الملامح المتشابهة وكذا الأعمار، يعلو الصخب من مائدة "أم رغد"، السيدة الأربعينية ابنة محافظة دمياط، التي تجمع صديقاتها في رحلة العلاج، بخفة ظلها وحديثها الشيق، تبحث عن رغد كل لحظة لتطمئن أنها ما زالت فوق الأرجوحة برفقة صديقتها، أو كما تقول، أخواتها: "السرطان بيهد البيت وبيفكك الأسر، رغد عندها سرطان الدم من سنين، لكن أنا لسه عندي أمل ترجع زي ما كانت وأحسن، بتمنى أشوفها عروسة، واتجمع مع أولادي".



صعيدية وشرقاوية وسكندرانية، فقير وميسورة الحال وباحثة عن لقمة العيش، جميعها مصطلحات دهستها أقدام هؤلاء النسوة، رافضة تصنيفهن وتقسيمهن، فالحلم المشترك والأهداف المتلاقية، صهرت كل الفوارق، دمجتهن في لوحة مثالية من قلب الواقع والحقيقة، فإذا أردت أن تجد الوجه الحقيقي للأمومة وتجلياته المتعددة، عليك بالبحث وراء أمهات مرضى السرطان. هؤلاء السيدات اللاتي أجلن كل عيد وكل فرحة، حتى يأتي عيدهن الأكبر، ويعيشن "حياة بلا سرطان".

الجريدة الرسمية