شيخ الأزهر في كلمته بالجامعة الكاثوليكية في لشبونة: فلسطين تواجه غطرسة القوة وسياسات التهجير.. عالمنا يموج بأزمات متعددة.. ندعو إلى إطفاء نار الحروب وإحلال السلام
ألقى الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، كلمة حول "سؤال القيم الدينية وأزمة المجتمعات المعاصرة" في الجامعة الكاثوليكية بلشبونة، على هامش زيارته للبرتغال.
وأعرب عن سعادته بإلقاء هذه الكلمة في الجامعة الكاثوليكية التي تأتي ضمن رسالة الأزهر الشريف ومجلس حُكماء المسلمين ومسئوليتهم في سَعيهما الحثيث لتأصيلِ مَبدأ «الحوار بين الشَّرقِ والغَرب»، ومحاولة تطبيقه على الأرضِ في شَتَّى عَواصِم أوروبا وأفريقيا وآسيا.
جسور التعاون
وقال الإمام الأكبر إن الهدف من هذا النشاط هو مدُّ جسور التعارف الحضاري بين الإنسان وأخيه الإنسان، مهما اتَّسعت بينهما فوارقُ الأجناس واختلاف اللُّغات والعقائد والأديان، وخصوصيـاتُ الثقـافات والعــادات والتقاليـد، وذلك عـبر التأكيد على المشتَرَكات الدِّينيَّة –وما أكثرها!- بين المؤمنين بالأديانِ السماويَّة، وحتى بين غير المؤمنين مِمَّن يحترمون الأديان ويَعرفون لها خطرها في ضبط مسيرة العالَم المعاصر، وإعادته إلى صوابه، بعد أن فقد «الاتجاه الصحيح» وضاعت الطريق من تحت قدميه، وأوشك أن يشرف على ما يُشْبِه «الانتحار الأخلاقي»، والغرق في فوضى عامة رُبَّما لم يَعرفها تاريخ الإنسانيَّة من قَبل.
أزمات مُتعدِّدة
وأضاف أنَّ عالمنـا المعـاصر -اليوم- يَمُرُّ بأزماتٍ مُتعدِّدة خانقة، في مقدمتها: الأزمة الاقتصادية التي تسببت في نشر الفقر والجوع وبطالة الشباب والتكبيلَ بالديون، واتِّساع الهوَّة بين الأغنياء والفُقَراء، وكذلك أزمة البيئة، وأزمة السياسات الدولية المعاصرة، وما تثمره من ثَمَراتٍ مُرَّةً في إذكاء النِّزاعات والاستقطابات الدوليَّة والصِّراع على النفوذ، «ونشر الفوضى وانهيار الأُسرة وتهميش المرأة»، وغير ذلك من الأزمات والعِلَل والأمراض الخلقية والاجتماعية والإنسانية التي تُصيب إنسان القرن الواحد والعشرين باليأس والإحباط، وتُفسِد عليه مُتعةَ الحياة، وهدوء البال وراحة الضمير.
الدين ليس سبب الحروب
وأبدى الإمام الأكبر دهشته مِن أنْ تَستقرَّ مَقُولَةُ: «الدِّينُ هو سَبَب الحُرُوب» في أذهانِ شباب اليوم، بل في أذهان الكهول والشيوخ، وتَحملهم على الاعتقاد بأنَّ الإنسانيَّةَ لا سبيل أمامها لكي تنعم بالسلام وبالعيش المشترك إلَّا باستبعاد الدِّين من مراكز التوجيه في المجتمع وتحويلَه إلى شأنٍ فرديٍّ خاصٍّ لا يتجاوز قلب المؤمن به إلى حيث التأثير في سلوك المجتمعات، صَغُرِ هذا التَّأثير أو كَبُر، وقد شجَّع هذا الاعتقاد على فتح أبواب الإلحاد أمام شبابنا على مصاريعها، وفقد معه إنسان هذا العصر أعزَّ ما يمتلكه باعتباره كائنًا «أخلاقيًّا» في أصل فطرته وطبيعته، مؤكدًا على أن الحقيقة العلمية تقرِّر –أيها السيدات والسادة- أنَّ الظاهرة التي لها أكثر من سبب، مِن الخطأ تفسيرُها بسببٍ واحدٍ من أسبابها.
شعوب الشرق الأوسط
وشدد على أن الأخلاق التي تتخذ من الأديان، مرجعية لها وضابطًا لأصولها وفروعها هي الأخلاق المرشحة لمقاومة الأخلاق المادية التي تغلَّبت على الدين وتحكمت فيه وعبثت به، وأن إطلاق العلم والتقدم والحرية والحداثة والاستهلاك عادت بالإنسان إلى ما يشبه عصر الغاب، وقد مضى على هذه الأخلاق، الآن أكثر من قرنين من الزمان بعثت فيها –ولاتزال تبعث- سلسلة من الحروب التي ضاع فيها آلاف الآلاف من الأرواح.
وتابع: لا أتحدث هنا عن الحربين العالميتين أو غيرهما من حروب القرن الماضي في أوروبا وغيرها، ولكني أتحدث عن الحروب العبثية التي اندلعت حديثًا في بلادنا، بل أتحدث عن دولة عندنا دُمِّرت بأكملها في ساعات معدودة ثم تركت خرابًا إلى يومنا هذا، أتحدث عن حرب العراق، وما خلفته وراءها من مآس وآلام وأحزان لا تنتهي.. أتحدث عن سوريا التي فيها انكشف الأمر عن صراع مذهبين عالميين من مذاهب السياسة، وجدا في هذا الأرض سوقًا لتصدير السلاح وسفك الدماء.
غطرسة القوة
أتحدث عن مقدساتي ومقدساتكم في فلسطين وما تواجهه اليوم من غطرسة القوة وصوت المستبد وسياسات الإبادة والتهجير، وأتحدث عن مأساة اليمن وليبيا وغيرهما، أتحدث عن التنظيمات الإرهابية المسلحة التي وُلدت فجأة، دون مقدمات ولا إرهاصات طبيعة أو منطقية.. ولدت كطفل له أنياب ولحى وشوارب، ولازلنا نبحث له عن أب أم أنجبته بهذه القوة الخارقة، ولا يزال البحث جاريا حتى الآن.. هذا الإرهاب الذي اختطف المنطقة على مرأى ومسمع من عقلاء الشرق والغرب، وأحالها إلى بركة دماء، ومرتع للفقر والمرض وساحة تجارب لتطورات الأسلحة الفتَّاكة.
ودعا شيخ الأزهر إلى البدء وعلى هَدْيٍ من أضواء الوحي والنبوة، إلى إطفاء نار الحروب والدعوة إلى سلام عالمي، مؤسَّس على أخلاق الدين وتعاليمه، يوقف شلالات الدماء التي تتدفق دون مبرر أخلاقي أو حضاري من سفك نقطة دم واحدة في هذا المشهد العبثي الذي اختلط فيه الموت بالخراب، واليتم والترمل، وفقد العائل، والنزوح من الأوطان.
القدوة الحسنة
وأردف فضيلته: ونحن أبناء الأديان الإلهية لنا الحق –كل الحق من دعوة الناس بالحسنى وبالقدوة الصالحة، وبالتي هي أحسن إلى طريق الحق والرحمة والمساواة بين الناس، والدعوة إلى ملتقى عالمي متخصص لقادة الأديان على غرار "برلمان أديان العالم" الذي عقد عام: 1993م في شيكاغو، وأن نبني على ما سبقنا إليه من توصيات.
وأتمنى أن تتضح من هذا الملتقى حقيقتان مهمتان نراهما من أهم ضوابط لحوار الأديان بين الشرق والغرب:الحقيقة الأولى: إعلان أنه لا حوار في العقائد؛ لأن حوار العقائد بفضي إلى صراع بغيض، هذا فضلا عما يثيره حوار من هذا النوع من ثقافة الكراهية والأحقاد ونسف أخوة الإيمان بالله من الجذور.
الحقيقة الثانية أنه ليس من الحكمة في شيء أن نفَسِّر قابليّة الأديان لإشعال الحروب، بأن المؤمنين بكلِّ دِين يزعمون أن دينهم يمتلك الحقيقة المطلقة، وأن غيرهم على خطأ مطلق، ممَّا حمل كثيرٌ من اللَّاهوتيين أنفسهم على البحث عن حل لما أسموه : "معضلة الأديان"، وكان الحل –في نظرهم- هو اعتقاد نِسبيَّة الحقيقة بين الأديان، وأرى أن هذا الحل يضع مسألة "الإيمان الديني" في مهب الريح؛ لأن "الإيمان" الصحيح هو اعتقادٌ يجب أن يرقى إلى رُتبة العلم التي هي أعلى مراتب اليقين، وإلَّا كان هذا الإيمان قابلا للشك، فلا يكون إيمانا حقيقيا، ولو فُتِحَ باب "النِّسبيَّة" في الدِّين، ومشروعيةُ ورودِ الشَّكِّ في أصول هذا الدين أو ذاك، وأن دِينا آخر يمتلك الحقيقةَ المطلقةَ أيضًا، رغم تنافي العقيدتين – أقول: لو فُتِح هذا الباب أمام المؤمنين بالأديان؛ فإن عليهم أن يختاروا بين أمرين:
1- إما الشك في دينهم، وحينئذ لا ينطبق عليهم وصفُ الإيمان بهذا الدين.
2- أو يقبلوا ورودَ الخطأ والصواب على حقيقة واحدة بحيث تكون مطلقة ونسبية في آن واحد، وهذا من المستحيلات التي لا يمكن تصوُّرُها. فلابد، والأمر كذلك، من أن يعتقد كل مؤمن حقيقي بدين بأن دينه هو الحقيقة المطلقة التي لا حقيقة سواها.
التفرقة بين المعانى
واختتم «الطيب» كلمته فقال: إن الحل الصحيح لما يسمى بمعضلة الأديان، يكمن في ضرورة التفرقة بين معنى الاعتراف ومعنى الاحترام، فليس معنى أن أحترم دين الآخر أني أؤمن بهذا الدين، ولكن أؤمن بحرية الآخر بأن يعتقد دينا مخالفا ومناقضا لديني، وأن أسلم له اعترافه بدينه، لكن لا يلزمني بالاعتراف بما يعتقد، وهنا نفهم آيات القرآن الكريم التي تقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} والتي تقول: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} بل إن آيات الكتب المقدسة في هذا الأمر تتفق اتفاقا واضحا، وما ورد في القرآن في هذا الشأن، فإذا فالأمر يعود إلى ضرورة التسامح والاحترام المتبادل بين العقائد وبين الأديان، والإسلام يفرض على الدولة المسلمة أن تمكن الآخر المختلف في الدين من ممارسة شعائر دينه، وأن توفر له دار العبادة التي يتعبد فيها، والدولة ملزمة بكل الضمانات التي تمكنه من ممارسة هذا الحق الذي لا يرى حقا سواه.