اللهُ باقٍ.. والبشرُ زائلون
قبلَ عامٍ ونصفِ العام.. وافقَ البرلمانُ البحرينىُّ على مُقترحٍ حكومىٍّ، يقضى بحرمان رجالِ الدين من الجمع بينَ "المنبر الدينىِّ" وبينَ "العملِ السياسىِّ"، بعدما أدركوا خطورة هذا الجمع في إثارة الفتن وتقسيم المجتمع و"إهانة الدين". هذا في "البحرين"، أمَّا في مصرَ.. فالأمرُ شديدُ الاختلاف والتبايُّن، فلا يزالُ خلطُ "السياسىِّ" بـ "الدينىِّ" قائمًا.
كنا نعيبُ على دولة الإخوان "المغدورة" الخلطَ بينَ السياسةِ والدين، فسقطتْ دولتُهم إلى غيرِ رجعةٍ، ولكنْ بقيتْ ظاهرة استخدامِ الدين لأغراضٍ سياسيةٍ. وخلالَ السنواتِ القليلةِ الماضية، تفاقمتْ الظاهرة، وصارتْ أشد تغوُّلًا، والذين كانوا يهاجمونها في الماضى، أصبحوا يدافعون عنها بكلٍّ ضراوةٍ، وغدا أمرُ الدين عندَهم "هيٍّنًا"، وهو عندَ اللهِ "عظيمٌ".
معَ كلِّ استحقاقٍ سياسىٍّ جديدٍ.. يتبارى رجالُ الدين الرسميون في استصدارِ "فتاوى" لا يمكن وصفُها إلا بأنها "سياسية ومختومة بختم النسر"، لا يهدفون منها إلا اللهثَ وراءَ مصالحَ شخصيةٍ بغيضةٍ، تتمثلُ في بقائهم في مناصبهم، أو الارتقاءِ إلى مناصبَ أعلى، كما يسترضون بها أصحابَ الحلِّ والعقدِ. تلكَ الظاهرةُ "العربية الإسلامية" بامتيازٍ، لا تنالُ من هيبةِ رجالِ الدينِ والمُشتغلينَ به والذين يسترزقون منه فقطْ، ولكنَّ الخطرَ الأعظمَ يتجسَّدُ في أنها تشوِّهُ الدينَ، وتثيرُ حولًه الغُبارَ، وتهزُّ صورته، أمامَ الأجيالِ الناشئةِ، ولعلَّ هذا أبرزُ أسبابِ تنامى ظاهرةِ الإلحادِ، وما يتبعُها من التجرؤ على الثوابت والمُقدسات، في الفترة الأخيرة.
لا يفهمُ رجال الدين الرسميون أنه عندما يتمُّ إقحامُ الدين في السياسة، فإنَّ الدينَ سوف يقعُ في قلب التوظيف السياسي ويتعرضُ لمآزقَ لا تنتهي، فالدينُ، أيُّ دينٍ، مناطُه القيمُ المُطلقة، أما السياسةُ فتبقى قائمةً على النسبيةِ والمساوماتِ والمناوراتِ والصراعاتِ والمكاسبِ، كما أنهم يجهلون أنه لا يمكنُ أن تقوم "علاقةٌ وطيدة" بين مبادئ الدينِ المُطلقةِ من ناحيةٍ، وبينَ وآلياتِ السياسةِ النسبيةِ من ناحية ثانية، وأنهم بصنيعهم الآثمِ هذا، يدمرون الدينَ، ويفسدون المُجتمعَ، وينثرون الفتنَ.
ما زلنا نتطلعُ إلى علماءِ دين حقيقيين صادقين لا يخلطون عملًا صالحًا وآخرَ سيئًا، علماء دينٍ يعملون لـ "وجهِ الله"، وليس لـ "وجوهِ البشر"، فاللهُ باقٍ.. والبشرُ زائلون.