رئيس التحرير
عصام كامل

الشهيد «رياض».. و«المنسي».. وتعليم زمان!


في العاشر من مارس 1969، دخل الفصل الأستاذ عبد الحليم شبل علينا كعادته مع بداية الحصة الأولى، ولأنه يأتي من طنطا لقريتنا فإن القطار يصل في الثامنة إلا عشر دقائق، وبالتالي فإن معظم الأيام لا يلحق الطابور لصعوبة للحضور قبل ذلك، نظرا لندرة المواصلات في ذلك الوقت، كان يدرس أكثر من مادة، اللغة العربية والدين، وأحيانا الألعاب عندما لا يتوفر لدينا مدرس ألعاب.


من عادة هذا المدرس الحاصل على دبلوم المعلمين -خمس سنوات بعد الإعدادية- أن يقرأ لنا الصفحة الأولى من جريدة الأخبار يوميا في بداية الحصة الأولى، خاصة أخبار المعارك مع العدو الصهيوني، ويشرح في دقائق الأحداث، مؤكدا في كل مرة حتمية تحرير الأرض المغتصبة، وكان يقصد كل الأراضي العربية وعلى رأسها فلسطين، في العاشر من مارس دخل الفصل ووجهه أسود، ويبدو عليه كل ملامح الحزن والغضب...

كعادتنا قلنا: الأخبار يا أستاذ!!؟ فرد بعفوية شديدة: الأخبار سيئة ووحشة قوي!

سيطر الصمت علينا وكنا صغارًا لا نعرف ماذا نقول..!؟ وإذا به يقرأ خبر استشهاد الفريق عبد المنعم رياض وتساقطت الدموع من عينيه، نعم.. بكى أمامنا وكان يحاول أن يتمالك نفسه، وبعد استعادته لنفسه تحدث عن البطل الشهيد، وأن مصر كانت تعقد الآمال عليه لأنه يعد من أبرع وأخلص الرجال لتراب الأمة العربية، خاصة أنه حارب في أكثر من جبهة عربية منها الأردن وسوريا!

وكان معروفًا مسبقا أن هناك رحلة سنوية وأحيانا اثنتين إلى مدينة طنطا أو مدينة المحلة، وكان هذا في المرحلتين الابتدائية أو الإعدادية، وأذكر هنا يوم ذهبنا إلى طنطا في صحبة الأستاذ عبد الحميد شبل في ربما في 1966 أو 1967، برنامج الرحلة زيارة المصانع الجديدة التي أنشئت في عصر ثورة يوليو مثل مصانع الصابون والكوكاكولا.. إلخ وفي نهاية الرحلة تناول الغداء والتصوير في الاستوديو لأن امتلاك كاميرا في ذلك الوقت ولا في الاحلام ونختتم الرحلة بدخول السينما التي لا يوجد في القرى أو المراكز سينما وللأسف حتى الآن، ماذا اختار لنا الأستاذ عبد الحميد شبل؟؟

اختار فيلم ثورة اليمن، وكنا في غاية الانفعال بأحداثه على الرغم من صغر السن، الطريف التقينا عند محطة القطار بمدرسة أخرى من قريتنا، وعلمنا منهم أنهم دخلوا سينما أخرى وشاهدوا اعتقد الزوجة 13 أو الزوجة الثانية، لا أذكر بالتحديد، لكن الشيء الذي لا يمكن أن أنساه هو أننا كنا نتباهى عليهم بأننا شاهدنا فيلما وطنيا وهو فيلم ثورة اليمن!

في المساء المتأخر لمثل هذا اليوم (11 فبراير) والصباح الباكر يوم غد (12 فبراير) من عام 1970 ارتكب العدو الصهيوني مذبحته بحق العاملين في مصنع أبو زعبل، إذ بينما كانت حرب الاستنزاف وقواتنا تنزل بالعدو الخسائر وتساقطت الفانتوم على القناة، وجن جنون العدو، فقد أغار بطائراته على المصنع، ويشاء الله أن نكون في مصانع المحلة الكبرى في رحلة مدرسية في الصف الأول الإعدادي، ويكون معنا الأستاذ محمد منصور أستاذ المواد الاجتماعية -(التاريخ- الجغرافيا-التربية القومية )- وكنا نتناول الغداء، وأقام حوارا معانا، يعلمنا أن العدو يفعل هذا بعد نجاح قواتنا في إيقاع الخسائر في قواته، والنجاحات الكبرى لقواتنا في تدمير المدمرة إيلات وميناء إيلات، وقيام القوات الخاصة بعمليات خلف خطوطه بنجاح كبير!

وبعدها بشهرين فقط حدثت مجزرة بحر البقر، هو هجوم شنه العدو الصهيوني بطائراته في صباح الثامن من أبريل عام 1970 م، حيث قصفت طائرات من طراز فانتوم مدرسة بحر البقر المشتركة في قرية بحر البقر إحدى قرى محافظة الشرقية، أدت إلى مقتل 30 طفلًا وإصابة 50..! لم يتركنا الأستاذ محمد منصور لمجرد سماع الأخبار، بل كان يرسخ داخلنا الانتماء وأن الحرب يدفع فيها ثمن غالِ، وتحرير الأرض لا يأتي إلا بالدم! واختارني لكي ألقي كل أسبوع كلمة الصباح في الطابور تتضمن الأحداث التي تجري على الجبهة، للعلم أيضا كان الأستاذ محمد منصور يحمل مؤهلا خمس سنوات بعد الإعدادية.

الهدف من السرد ليس حكايات القهاوي، لكن هؤلاء المدرسين الذين أعمارهم كانت دون الخامسة والعشرين عاما، ومؤهلين للتربية والتعليم، كانوا ينمون فينا الانتماء الوطني دون تعليمات لهم، كانوا يشعرون بأهمية دورهم في المدرسة والتربية الوطنية، لو تركت لنفسي الحديث عن هذين النموذجين فلن تسعنى المساحة، لكن أعود إلى مدارسنا اليوم وجامعاتنا، كم مدرس حاول الحديث عن المقاتل الفذ العميد الشهيد أحمد المنسي؟

أليس بطلا يستحق يكون نموذجا للأجيال المقبلة؟ أليس نموذجا يجب أن يحتل مكانة في القلوب والعقول ليشعل دائما الحمية الوطنية؟! مؤكد الشهداء كثر، وجميعهم لهم حقوق علينا كأفراد، وكمسئولين، وكمجتمع مدني، لكي نرسخ الانتماء والبطولة -أيضا لكي يكون لنا أجيال مقبلة قادرة بإيمان حماية مصر من أطماع ومؤامرات الأعداء.. الصهاينة أو غيرهم.. وتحيا مصر... تحيا مصر!
الجريدة الرسمية