رئيس التحرير
عصام كامل

حكاية شركة كانت رمزا للكرامة


منذ ما يقرب من عشـرة أيام حضر إلى مكتبي خمسة من العاملين بالشركة القومية للأسمنت؛ ليطلعوني على ما تواجهه هذه الشركة العمالقة من مشكلات تقضي على وجودها، ولهذه الشركة في قلب كل وطني رصيد كبير، فقد كانت من أعظم شركات الأسمنت في الشرق الأوسط، وتم تأسيسها في حلوان بأمر مباشـر من الزعيم جمال عبد الناصر عام 1956، أي في عام العدوان الثلاثي على مصر، بغرض مد البلاد بحاجتها من الأسمنت الذي صار مرتبطا بنهضة مصر، وإمداد مشروعاتها القومية والخاصة بما تحتاجه، وبما يزيل من أثر العدوان، فقامت الشركة بواجبها تاما..


ظلت الشركة على عهدها بتقديم الإنتاج الذي يسهم في التقدم، وحتى مع إنشاء مصانع حكومية أخرى مثل "أسمنت طرة" و"أسمنت حلوان" ظلت الشركة القومية هي الأم، والمصدر الأساسي للأسمنت في مصر، كما أنه أنيط بها إنتاج المادة الخام التي منها يتصنَّع الأسمنت، وهي مادة "الكلينكر"، وصارت الشركة أساسية في معالجة تلك المادة لباقي الشركات، وكانت القومية للأسمنت هي التي يتحدد منها سعر الطن للأسمنت حتى دخلت مصر موجة الخصخصة التي أفادت بعض القطاعات، لكنها حكمت بالموت والهلاك على قطاعات أخرى، وبالتالي خلقت موجة من الرعب وارتفاع الأسعار للمستهلكين.

كانت شركات الأسمنت من هذه القطاعات التي تضررت، وأضرت المستهلك المصري، فقد هبط على السوق المصري أخطبوطات ضخمة في صورة شركات عالمية للأسمنت من جنسيات متعددة، وكلها شركات متعددة الجنسيات ذات ميزانية أضخم من ميزانيات الحكومات، فجاءت هذه الشركات العالمية إلى مصر منتقلة من البلاد الأوروبية بعد أن وقعت أوروبا اتفاقيات تتعلق بالمناخ، ولما كانت هذه الشركات ملوثة للبيئة، بحثت لنفسها عن مكان تعمل فيه وتلوث كما شاءت، فكان هذا المكان هو مصر..

ومع أموالها الطائلة تم إنشاء مصانع خاصة بهم، وللقضاء على منافسة الشركات المصرية في الأسعار خفضت هذه الشركات أسعارها، بحيث كان أقل من التكلفة الفعلية لإنتاج الطن، وكانت بالفعل تخسر خسارة محسوبة، فكان المستهلك يشتري من هذه الشركات بالأسعار المخفضة؛ مما عرّض الشركات الحكومية لخسارة ضخمة..

وهنا ومع فساد الذمم اشترت -أو بمعنى أدق استولت- هذه الشركات العالمية على معظم شركات الأسمنت الحكومية مثل "أسمنت طرة" و"أسمنت حلوان"؛ بحجة أنها شركات خاسرة وبيعها أفضل، وبالتالي صارت سوق الأسمنت في أيدي الحيتان الأجانب ففرضوا سعرهم العالي للطن، وعوضوا خسائرهم وحولوها إلى مكاسب مهولة لا حد لها، وبقيت القومية للأسمنت تصارع موجة الخصخصة، وتلتزم بتقديم الإنتاج للدولة والمستهلك بأسعار ملائمة..

لكن حيتان الأسمنت الأجانب في مصر اتفقوا سويًا وفرضوا أسعارهم على الطن وأمروا القومية للأسمنت -التي رفضت الحكومة بيعها لأنها صارت الشركة الحكومية الوحيدة ذات الشأن العاملة في المجال، والتي قد توازن الأسعار بعد موجة الغلاء البشعة التي اجتاحت السوق؛ ولأنها هي المهيمنة على إنتاج مادة الكلينكر -بأن تبيع بأسعارهم فانصاعت لهم القومية حتى لا تخسر، وظلت صرحًا مصريا يرمز لوجود الدولة في ذلك المضمار.

كانت بداية النكبة في أكتوبر 2012 عندما فرض المسئولون عن الشركة في ذلك الوقت مشروع التحسين البيئي وزيادة الطاقة والإنتاج، الذي يقضي بأن يتم تطوير مصانع الشركة وأفرانها، وكانت الدراسات تؤكد أن ذلك التطوير سيستمر لمدة عامين على الأكثر، ويتكلف 450 مليون جنيه، وكانت هذه هي الدراسات التي قدمتها الشركة التي قامت بالتطوير ووافقت عليها القومية للأسمنت..

لكن نتيجة الفساد وانعدام الضمير، وعدم وجود رقابة على الشركة التي تقوم بالتطوير ظل العمل والتطوير من 2012 وإلى 2016، مما رفع من تكلفة التطوير إلى مليار ومائتي جنيه، وطبعا لم يذهب هذا المبلغ كله للتطوير وذهب في جيوب أخرى، ولم تتحمل ميزانية الشركة هذا الرقم الكبير فبدأت الخسارة، وكان من الممكن أن تعوض هذه الخسارة بالعمل وزيادة الإنتاج، لكن بعد التطوير ومنذ اليوم الأول فوجئ –كما ذكر لي أحد المهندسين– العمال والفنيين بوجود عيوب ضخمة في نظام الغاز تؤدي إلى إهدار الغاز المستخدم بنسبة تصل إلى 45%، مع وجود عيوب في الكهرباء تؤدي إلى نسبة ضخمة من إهدار الكهرباء..

تقدم الفنيون والمهندسون بمذكرات توضح هذه العيوب وتطالب المسئولين محاسبة الشركة المطورة على هذه العيوب لإصلاحها على نفقتها الخاصة بعدما أخذت مبلغًا ضخما في ذلك التطوير، لكن المفاجأة أن المسئولين عن القومية لم يحركوا ساكنا حيال ذلك الأمر، وكأنه لا يعنيهم، وكأنهم سعداء بهذه العيوب التي تؤدي إلى خراب الشركة، وكأن هذا الخراب هو ما كان مقصودا بالتطوير، وتم تشغيل الشركة بهذه العيوب الخطيرة؛ مما زاد من حجم الخسارة حتى بلغت في العام 2016/ 2017 إلى مليار جنيه بسبب تحرير سعر الصرف، وارتفاع أسعار الغاز بصورة غير مسبوقة، فقد ارتفع سعر الغاز من دولارين لكل مليون وحدة حرارية في عام 2014 وكان سعر الدولار 6 جنيهات، إلى أن صار 8 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، وسعر الدولار 20 جنيهًا، فزادت تكلفة الطن ما أدى إلى ثبات السعر إلى حد كبير فتضاعفت الخسائر.

تقدم –كما يذكر فني آخر– بعض المهندسين والفنيين بدراسة للمسئولين الذين أوقفوا العمل بمصنعي الشركة ( 3، 4 ) لوقف نزيف الخسائر بسبب أسعار الغاز، فكانت دراسة المهندسين تقضي بالاعتماد في التشغيل على المازوت بناحية فنية تقلل من التلوث، والمازوت أرخص بنسبة النصف من الغاز؛ مما سيؤدي لعودة الأرباح، لكنَّ المسئولين السعداء بالخسائر رفضوا مجرد النظر في الدراسة، وإقالة الشركة من عثرتها، وكأن ذلك يحطم هدفهم من تركيع الشركة، وإظهار خسائرها وتعظيمها ليتحقق الهدف الأخير، وهو بيعها للحيتان الأجانب..

ورغم أن الزعيم السيسي قد أكد من قبل على الامتناع عن بيع أو تأميم أو خصخصة أي شركة حكومية، لكن الحيتان الأجانب طامعين في هذه الشركة التي تنتج الكلينكر ولها وضعها في السوق، ولو تم الاستيلاء عليها لصارت سوق الأسمنت كاملة في أيديهم، وهم ينفذون خطتهم بكل أحكام، مستغلين بعض ضعاف النفوس الذين يستسهلون الأمر، وبدلا من حل أزمة الشركة وعمالها يجدون أن الحل هو إغلاق الشركة، وإجبار العاملين فيها على الخروج للمعاش الإجباري، وذلك بأن هؤلاء المسئولين عرضوا على العمال أن ينقلوهم بعد إغلاق الشركة إلى محل آخر في بني سويف، أو يخرجوا للمعاش المبكر، وقد تم تخفيض رواتبهم وحوافزهم بنسبة ضخمة بحجة خسائر الشركة، كل ذلك ليترك العمال الشركة، وهنا يبيعونها للحيتان بحجة الخسائر.

ونحن إذا نقدم هذه الحكاية نود أن يحقق السيد النائب العام في كل ما دار حول هذه الشركة، ويحاسب هؤلاء المسئولين عنها، بداية من الذين تقدموا بالتطوير وأنفقوا فيه المليارات دون رقابة للشركة المطورة، ولم يجبروا الشركة المطورة على إصلاح العيوب، وكأنه كانت هذه العيوب هي المقصودة من التطوير..

كما نلتمس أن يحاسب النائب العام المسئولين الذين يرفضون حل مشكلات الشركة بإيجاد مخرج لها من الخسائر بإصلاح العيوب والإشراف الجدي عليها، بدلا من بيعها بحجج واهية، منها أنها ملوثة للبيئة وفي الكتلة السكنية، رغم أن مصنع أسمنت حلوان يقع داخل الكتلة السكنية بالفعل ويعمل بكل ترحيب، بينما الشركة القومية بعيدة عن تلك الكتلة..

وأخيرا يجب محاسبة المسئولين عن هذه الكارثة ومنع بيع هذه الشركة بكل قوة وإعادتها للعمل ودعمها؛ لتنافس الحيتان الطامعين فيها؛ ليبقى جزء من هذه السلعة الاستراتيجية في يد الحكومة.
الجريدة الرسمية