إعلام تفصيل!
أرى أن ما يحدث تجاه الإعلام والإعلاميين يشير إلى أن هناك اتجاهًا على أن يكون الإعلام "تفصيلًا" وعلى "قد المقاس"، وأن الإجراءات التي يتم اتخاذها تجاه الإعلاميين تشير إلى أن المجال العام بات يختنق.
فمنذ أقل من أسبوعين انتفضت وسائل الإعلام ردًا على تقرير شبكة الـ"بي بي سي" الذي لم تلتزم فيه المراسلة معايير الدقة والمهنية فيما يتعلق بالتقرير الخاص بالاختفاء القسري للفتاة "زبيدة" التي اتضح أنها متزوجة ولم تتصل بوالدتها لأكثر من عشرة أشهر.. السفير سامح شكري وزير الخارجية، واكب الحدث فقال في تصريح نقلته معظم الصحف المصرية: "إن حقوق الإنسان تحظى بأولوية متقدمة في أجندة الحكومة المصرية، خاصة بعد ثورتي 2011 و2013".
غير أن السيد وزير الخارجية لا يعرف أن حرية التعبير من بين المستويات التي يجب أن تراعيها الحكومة.. ففي الأسبوع نفسه تم احتجاز الإعلامي خيري رمضان بعد إذاعته تسجيلا لسيدة قالت إنها زوجة ضابط شرطة وتم تقديم بلاغ ضده بإهانة وزارة الداخلية، وتم الإفراج عنه بكفالة.
ومنذ عدة شهور تم تقديم بلاغ ضد المطربة شيرين وصدور حكم بحبسها لمدة 6 أشهر بتهمة نشر أخبار كاذبة، عندما قالت: "إن من يشرب من مياه النيل قد يصاب بالبلهارسيا".. ورغم قناعتي الشخصية بانتفاء "القصد" وراء ما قالته شيرين وإنها أجابت بعفوية تنقصها الحكمة وتعوزها استعادة الإحساس بالانتماء، واعتقادي أن إجابتها عن سؤال عما إذا كانت تشرب من مياه النيل خانتها، فإن تعبير شيرين عن رأيها قادها إلى حكم بالسجن، فما قالته شيرين هو رأي وليس خبرًا.
منذ أكثر من عام تم منع الدكتور عمار على حسن من الكتابة في صحيفة الوطن، وعندما تم سؤاله عن السبب أجاب في مقابلة تليفزونية، قائلا إنه كان مستعدًا للكتابة مجانًا، لكن الواضح أن هناك توجيهات صدرت بمنعه الكتابة.. وبالمثل، فإن انتقاد الإعلامي إبراهيم عيسى لأداء أجهزة الدولة وعن حرية التعبير، أدى إلى وقف برنامجه على قناة القاهرة والناس.
في الأسبوع الماضي، كتبت مقالا قلت فيه إن الإعلام الغربي لا يتفهم ما يحدث في مصر من مطاردة وملاحقة للإعلاميين لأنه يتنافى مع المجال العام في بلادهم ويتنافى مع حرية التعبير في بلادهم.. ولهذا السبب جاء خبر حبس المطربة شيرين في العديد من الصحف الأجنبية مثل، النيويورك بوست، نيويورك ديلي، الإكسبريس البريطانية، والديلي ميل البريطانية، بعنوان "حبس مطربة مصرية 6 أشهر بسبب نكتة عن النيل" Egyptian singer sentenced 6 months over Nile joke”"..
أما خبر احتجاز الإعلامي خيري رمضان فتم نشره في صحيفة الجارديان البريطانية تحت عنوان "مصر تحتجز مقدم برامج تليفزيوني ضمن الإجراءات الأخيرة لقمع الإعلام" ”Egypt detains state TV host in latest crackdown on media".
الصحف الغربية التي أردات أن تكون أكثر موضوعية – مثل صحيفة النيويورك تايمز، وشبكة الـ "إيه بي سي" لم تعتبر أن ما حدث للإعلامي خيري رمضان قمعًا لكنها لم تنس أن تذكر قراءها، بأن الإعلامي خيري رمضان "موالِ للحكومة، والمعني بالنسبة لهذه الصحف في بطن الشاعر، فإذا كانت الحكومة تفعل ذلك مع إعلامي موالِ، فما بالك بالمعارض.
في جميع الدول التي تسعى إلى إرساء نظام يحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير باعتبارها من أبسط الحقوق، هناك إعلام مؤيد وإعلام معارض، أعلام يتفق وإعلام يختلف، ولكن هناك اتجاه لبعض القطاعات في مصر ترغب في إعلام ذو اتجاه واحد.. إعلام لا يتحدث عن السلبيات.. ورغم أن الحكومة أنشأت المجلس الأعلى للإعلام لتنظيم الإعلام، فإن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام وعلى رأسه رئيسه سمع كما سمع الناس باحتجاز الإعلامي خيري رمضان.. ورغم أن هناك نقابات مسئولة عن تنظيم المهن فإن النقابات أيضًا تسمع عمن يتم احتجازه ومن يتم حبسه بسبب أدائه المهني.
ما هو المطلوب من الإعلاميين؟ في رأيي المطلوب من الإعلاميين أن يتحولوا إلى إخصائيي علاقات عامة يروجون لجميع السياسات التي تتخذها الحكومة، ويحسنون من "الصورة الذهنية للحياة في مصر"، وأن يتضمن ذلك الابتعاد عن أي خبر سلبي، والتذكير بالإنجازات التي يتم تحقيقها؛ لأن ذلك يزرع روح التفاؤل وينزع روح الشر والتشاؤم ويمنع انتشار الطاقة السلبية بين الناس.
ومع احترامي الكامل لهذه الرؤية، فإن إحدى الوظائف الأساسية للإعلام هو رقابة المجتمع.. والحكومة وأجهزة الدولة وقطاعات مختلفة من المجتمع هم جزء من أجزاء المجتمع، لذلك تجد إعلاميين يناقشون ويجادلون، ويعرضون وجهات النظر التي لا ترغب الحكوم، أو التي لا يرغب قطاع من الناس أن يسمعوها، ليس لأن الإعلاميين أشرار، ولكن لأنهم يعتقدون أنهم أحرار في مجتمع حر؛ ولأنهم يعرفون أنهم إعلاميون أو صحفيون وليسوا متحدثين باسم الحكومة أو قطاعات معينة في الدولة.