اللحظات الأخيرة
بين أغنية "تلات سلامات" و"تلات دقات" عقود طويلة تغير خلالها المجتمع ولكن مهما جاءت المتغيرات سيكون دائمًا هناك ثوابت لا يغيرها الزمن على رأسها: الموت والحب.
الموت: في أوبرا "توسكا" لبوتشيني، يقود الجنود الرسام كافارادوسي للإعدام الذي يدرك أن ساعته اقتربت لذلك يشعر بأن كل شيء في العالم جميل وثمين.. النجوم في السماء.. الأوراق المرتجفة مع كل نسيم.. لأن الأمور التي قد لا نُعيرها اهتمامًا في حياتنا تصبح في اللحظات الأخيرة مميزة لا يمكن الاستغناء عنها.
خلال السنوات الماضية جمعني العمل بزملاء.. انسجمنا أحيانًا.. وتباعدنا في الآراء أحيان أخرى.. ولكنني لم أتخيل يومًا أن استيقظ على خبر رحيل أحدهم.. الأول شاهد ابنته بعد أن صدمتها سيارة ليصاب بأزمة قلبية مفاجئة كلفته حياته.. عاشت الطفلة رغم الحادث ولكن مات والدها بعدما رسم برحيله "لوحة" باكية تُعبر عما يكنه من مشاعر نحوها، و"لحن" حزين لشوارع تحتاج الضبط لتقليل أعداد ضحاياها.
أما الثانية فقد كانت صغيرة.. لم أتخيل أن الموت يمكن أن يكون وقحًا للدرجة التي تجعله يقترب منها.. ولكنه مرض السرطان الذي يهاجم كجيوش تتار عازمة على اقتحام المدن المنيعة.. كانت قوية في مواجهته بطريقة تجبرك على احترامها بقدر كراهيتك للمرض ولكنها أعلنت الاستسلام في النهاية لترتاح بعد أن أعطت الجميع درسًا قاسيًا بأن النهاية قد تكون أقرب مما نتخيل.
الحب: كان منزلنا يقع بالقرب من ميناء الإسكندرية حيث تعودت في طفولتي على مراقبة السفن في إيابها وذهابها مثلما راقبت باهتمام حركة الشارع.. يومها ضجت الصرخات مُدوية كأنها نهاية العالم بينما جاءت سيارة الإسعاف مسرعة وفي آثرها الشرطة.. توقف النجار عن العمل.. وأغلق الحداد دكانه.. بينما ترك أحدهم غدائه في المطعم مفضلًا الاندماج وسط الزحام لإشباع فضوله.
مع تداول الحكايات تذكرت فتاة كنت أراها بشارعنا.. كانت نموذجًا للجمال.. أفروديت منطقتنا والشوارع المجاورة.. بغريزة طفل كنت أشعر أنها في المكان الخاطئ حيث شارعنا الشعبي ليس له علاقة بحواري مدينة الإنتاج الإعلامي.. أما أفعال الشهامة في مسلسلات رمضان فهي لا تعبر بالضرورة عن قسوة الواقع.
اختفي "حسن أرابيسك" من أزقة شوارعنا التي امتلأت بأخلاق "رمضان الخضري" لذلك كانت قصة تقليدية عن "ندل" خدع فتاة بوعود الحب ثم أنكرها قبل أن يتفاخر بما حققه.. لم يقف أحد من أهلها بجوارها إلا وهم يدخلونها في القبر بعدما انتحرت بحرق نفسها.. سجلت الفتاة اسمها ضمن ضحايا الحب الزائف البعيد عن روعة الحب الذي نأمله.
بعد سنوات طويلة رأيته.. كان يقف في الشارع نفسه بينما تبدلت حالته تمامًا.. لم يعد ذلك الشاب المهندم بل أصبح بائس المظهر، أقرب للمجاذيب بعد أن دمرته الأيام في انتقام صريح مما جنته يداه.