حكاية النيابة الإدارية مع جمال عبد الناصر!
كانت الجهات الإدارية حتى عام 1954 تتولى وحدها التحقيق فيما يقع من العاملين بها من مخالفات مالية وإدارية بمعرفة الإدارات القانونية التابعة لها، ولم يكن هذا النظام يوفر للعاملين الضمانات الكافية، ويعرضهم في كثير من الأحيان للتعسف وإساءة استعمال السلطة؛ نظرًا لتبعية الإدارات القانونية لرؤساء الجهات الحكومية.
وكانت نتيجة هذه التبعية التأثير فى حرية المحققين وحيدتهم على نحو كان يؤدي إلى الانحراف بالتحقيق عن غايته الأساسية وهي الوصول إلى الحقيقة مما كان يترتب عليه تبرئة مذنب أو إدانة بريء، الأمر الذي تأذت منه العدالة وكان مثار شكوى جموع العاملين بالجهاز الإداري للدولة على مدى سنوات طويلة حتى ثورة 23 يونيو 1952، حيث بدأ التفكير في تلك الأمور حين تحدث جمال عبد الناصر مع مجلس قيادة الثورة عن أنسب الحلول لمكافحة الفساد الإداري بالدولة، فاتفقوا على أن ذلك لن يتم إلا من خلال جهاز قضائي متكامل.
سارع جمال عبد الناصر حينذاك في إنشاء النيابة الإدارية من خلال القانون رقم 480 لسنة 1954 بقصد توحيد جهات التحقيق المختلفة في هيئة واحدة مستقلة عن الوزارات والمصالح التي يتبعونها حتى يؤدى عملهم إلى نتائج مثمرة تسير بالجهات الحكومية في طريقها السليم وفقًا لما جاء بالمذكرة الإيضاحية للقانون.
وبعد أن أثبتت التجربة العملية نجاح النيابة الإدارية في أداء دورها حيال إصلاح عيوب الجهاز الإداري للدولة عن طريق تعقبها للمخالفات المالية والإدارية التي تقع من العاملين أيًا كان موقعهم في السلم الوظيفي وتحديد مسئوليتهم عنها دون الإخلال بكل الضمانات القانونية المقررة لهم.
ونتيجة طبيعية لهذا النجاح تدخل المشرع مرات عديدة لتوسيع اختصاصات النيابة الإدارية استجابة لرغبة جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية حينذاك حتى مد ولايتها إلى غير العاملين بالجهاز الإداري للدولة مثل أعضاء مجالس إدارات التشكيلات النقابية العمالية والعاملين بالجهات والهيئات الخاصة التي يصدر بتحييدها قرار من رئيس الجمهورية، حيث أناط بالنيابة الإدارية وحدها دون غيرها في مرحلة لاحقة التحقيق مع شاغلي الوظائف العليا بالجهاز الإداري للدولة وشركات القطاع العام بقصد إسباغ حماية، خاصة للمال العام ضمانًا لتحديد المسئولية عن كل تعد يقع عليه عمدًا أو إهمالًا.
وفي هذا المجال أجد لزامًا على التنويه إلى أن الحاجة باتت ماسة وملحة لإجراء مراجعة شاملة للعقوبات التأديبية المعمول بها حاليًا.. وبصفة خاصة ما يطبق منها على شاغلي الوظائف العليا، حيث إنها تفتقر إلى الفاعلية والتوازن وتتسم بالجمود الذي تقع معه السلطة التأديبية فريسة للحرج عند اختيارها للجزاء الذي يتفق وجسامة المخالفة.
ولما كانت النيابة الإدارية صاحبة باع طويل في تحقيق المخالفات التأديبية وتقصي أسبابها واقتراح الحلول المناسبة لتلافيها بالنظر إلى كونها الهيئة القضائية الوحيدة المتخصصة في تحقيق هذه المخالفات، ولذلك فإن الأمر يستلزم ضرورة استطلاع رأيها في أي تعديل مقترح لأنظمة التأديب المعمول بها.
وفي النهاية نؤكد أن قانون النيابة الإدارية مضى على إصداره أكثر من 60 عامًا تعرضت خلالها نصوصه للنسخ والتعديل، ومن ثم فقد آن الآوان لإعادة تنظيم النيابة الإدارية وإصدار قانون جديد يلافي أوجه القصور القائمة في القانون الحالي بما يدعم اختصاصها وفقًا للدستور ويوفر لها الضمانات والصلاحيات اللازمة لإنجاز رسالتها في تحقيق العدالة والحفاظ على المال العام وتعقب أوجه الفساد في كل مرافق الدولة، وهو أمر لا يتحقق إلا بإخضاع جميع العاملين المدنيين بالدولة على اختلاف فئاتهم والأنظمة الوظيفية المطبقة عليهم للنيابة الإدارية.. وللحديث بقية.