رئيس التحرير
عصام كامل

ديستوبيا.. وشبح المدينة الفاسدة!


ورغم أن معظم كتابات فلاسفة السياسة قد تحدثت عن مفهوم "الدولة الصالحة" التي أطلق عليها أفلاطون اسم "الجمهورية" بينما أطلق عليها الفارابي "المدينة الفاضلة".. إلا أن الكتابات التي تناولت مفهوم "الدولة الفاسدة" كانت ولا تزال نادرة!


ففى الوقت الذي سقطت فيه كثير من الدول في أتون الهشاشة والفساد.. كانت إصبع الاتهام دائما تتجه صوب "الحكام"؛ وتحملهم المسئولية الكاملة في إفساد بلدانهم.. وترى أن الخلاص من الهشاشة لن يحدث؛ سوى بالإطاحة بالنظم الفاسدة، واستبدالها بأخرى صالحة! فقد كانوا على قناعة بأن الدول ككيانات هي صالحة بطبيعتها، وأنها لا تفسد إلا بخطأ إنساني متعمد!

بمعنى أن الدول بطبيعتها مهيأة للنهضة والتقدم.. لكن ثمة أشخاص برتبة "حكام" عادة ما يحولون مسارها -عن عمدٍ- إلى طريق آخر غير مرغوب؛ مما يجعلنا نستنتج أنه ليست هناك دول فاسدة.. بينما هناك حكام فاسدون! وفى المقابل ليس هناك مدينة صالحة.. ولكن هناك حكام صالحون!

وإذا كانت الدولة الصالحة هي الدولة التي تدفع مواطنيها إلى التفكير كمواطنين أحرار، شركاء في الوطن الذي يعيشون فيه، وليس كإجراء أو مستأجرين، أو كضيوف ومتفرجين.. فقد استخدم فلاسفة السياسة مصطلح "ديستوبيا" أو عالم الواقع المرير، للإشارة إلى المدينة الفاسدة أو المكان الخبيث.. والتي يصفونها بأنها مجتمع خيالي فاسد أو مخيف أو غير مرغوب فيه..

وتتميز "الديستوبيات" أو المدن الفاسدة غالبًا بالتجرد من الإنسانية، وتتسم حكوماتها بالشمولية ويعاني سكانها من الكوارث البيئية وغيرها من الأزمات المرتبطة بانحطاطات كارثية في المجتمع. لهذا فقد اتخذت "الديستوبيا" مجموعة من الخصائص، مثل تفشي الفقر والتلوث البيئى والتأخر في التعليم، بالإضافة إلى الانحطاط السلوكى والضعف الصحي والانهيار المجتمعي والقمع السياسي ؛ ومن ثم تراجع معدلات الانتماء في تلك البلدان يوما بعد الآخر!

وربما تثير تلك المناقشات لدينا "لغطًا" شديدًا حول مفهومَي الفساد والهشاشة؛ خاصة أن مصر قد تراجعت عالميًا هذا العام 9 درجات على مؤشر مدركات الفساد لتحصل على المرتبة 117 عالميًا بعد أن كانت الدولة رقم 108 فى2016 م، وكانت في المرتبة 88 في عام 2015م!

والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا هذا التراجع رغم كم الإصلاحات التي أجراها النظام في مختلف القطاعات.. ورغم حجم قضايا الفساد التي تنظر الآن أمام القضاء؟ هل لأن الشعب كان غير قادر على مواكبة هذا الإصلاحات والتعاطي مع آلياتها؛ فتحايل عليها بطرق الفساد الملتوية؟ أو لأن هذه التقارير بطبيعتها "مُسيَسَة".. أرادت أن تضع مصر في غير موضعها الذي تستحقه، فجاءت مغايرة للواقع؟! وأظنها كذلك!

والسؤال الأهم هل يعنى تراجعنًا على مؤشر مدركات الفساد هذا العام أننا ما زلنا نعانى من "الهشاشة" رغم تزايد الاحتياط النقدى الذي تجاوز 40 مليار دولار هذا العام.. وانخفض معدل الواردات وتزايدت معدلات التصدير؟ هل سوف تفاجئنا التقارير الدولية هذه في الأيام القادمة بأننا "دولة هشة"؟!

وعلى كل حال.. فعادة ما تقع الدولة الفاسدة بين هشاشتين، هشاشة المجتمع والتي تحدث حينما تدب فيه الانشقاقات والشروخ، وتأخذه ديناميات الانقسام إلى صدام مُعلَن أو دفين؛ حيث تتحول فيه الخلاقات الاجتماعية إلى صراع سياسي حاد.. كتلك الخلافات التي وقعت في مصر إبان ثورة 25 يناير 2011م، بين القوى المدنية والدينية.. وكذلك الحال في الدولة التي بموجب هذا التصدع في بنية المجتمع فقدت سلطانها السياسي كما حدث في لبنان عام 1975.. أو فقدت تماسكها ووظائفها كما حدث في العراق عام 2003م، وربما قد تنهار كما هو الحال في الصومال!

ومن ثم فإن فساد الأنظمة الحاكمة وكذلك فساد النخبة السياسية والمثقفة تعد جميعها عوامل أساسية للهدم؛ تدفع البلدان دائما نحو "مطحنة" الهشاشة.. تلك الهشاشة التي تتحول إلى شبحٍ يهدد بقاء واستمرار تلك الأنظمة، حتى وإن كانت صالحة!

لم يخطئ الرئيس السيسي حينما قال إنه يحكم دولة هشة.. فقد سبقته تقرير دولية كثيرة، تؤكد مقولته بمؤشرات عشر تتعلق بأمن المواطنين وسلامة المجتمع، منها: معدلات الجريمة و"النشاط الإرهابي"، والتظاهرات العنيفة، والعلاقات مع الدول المجاورة، واستقرار الوضع السياسي، فضلًا عن الإنفاق العسكري من الناتج المحلي الإجمالي، ومؤشرات أخرى تخص الوفيات الناتجة عن جرائم القتل والنزاعات المسلحة والنزاعات داخل الدولة.. وإذا كان الرئيس قد أدرك كل هذه المؤشرات، فإن عبارته لا تستدعى العبث ولا السخرية، وإنما تستدعى الانتباه وإعادة التفكير في الحلول والبحث عن مسار مختلف للخروج من الأزمة بعيدًا عن العند والمكابرة من النظام والشعب على حدٍ سواء!

إذن ليس بالضرورة أن نكون دولة فسادة حنى نصبح دولة هشة.. وليس بالضرورة أيضًا أن يكون النظام فاسدًا حتى نتحول إلى دولة هشة.. وإنما بالضرورة أن ندرك أننا دولة هشة وأننا لدينا معدلات فساد مرتفعة، وأن يدرك كل مواطن في مصر بأنه جزء من الحل.. فإن لم يكن جزءًا من الحل فهو جزء من المشكلة!

لم أطالب النظام في هذا المقال بما لا يستطيع ولا أحمله بما لا يطيق.. ولكنى أترك أمامه ملف التعليم الذي إن تمكن من إصلاح فساد تم القضاء على فساد باقى ملفات الدولة.. فمعظم الدول التي تم تدميرها.. بدأت بتدمير التعليم وتكريس الغش كأداة أساسية لتجاوز المراحل التعليمية؛ فيتم علاجنا في مستشقيات، أطباؤها نجحوا بالغش، ونعلم أولادنا في مدارس نجح مدرسوها بالغش، ونسكن في أبراج بنيت على أيدى مهندسين نجحوا بالغش، ونأكل من مزارع أشرف عليها مهندسون نجحوا بالغش!

وعلى أي حال فلن تخرج مصر من كبوتها سوى بإلإيمان بـ"الله" من خلال الاهتمام ببناء "دولة القيم" ولن يخرج المصريون من أزمتهم إلا بالإيمان بـ"الوطن" من خلال بناء "دولة السياسة" في فعاليات انتخابية حرة فاعلة، يشارك فيها السواد الأعظم من المصريين، وكذلك اختيار قيادات أكفاء، وفق معايير وطنية عادلة.. تضع مصلحة مصر في المقدمة!
Sopicce2@yahoo.com
الجريدة الرسمية