رئيس التحرير
عصام كامل

ورحل المثقف الذي رفض لقب وزير!


ورحل علي أبو شادي المعروف بالناقد السينمائي الكبير لكن الحقيقة المثقف الموسوعي الكبير، رحل بلا مقدمات، رحل والابتسامة على وجهه ووجه كل من حوله، بل كان ساخرا ومداعبا للموت، فعندما أكمل السبعين من عمره منذ عام وعدة أشهر، قال: إنني أكملت السبعين وباقي ٣٠ سنة! قالها ساخرا.. مبتسما.. لا يحمل على كتفه أي أعباء أو هموم أو قلق.


بدأت علاقتي به في صيف ١٩٩٧ -أكثر من عشرين عاما- أثناء إعداد ندوة عن السينما والعولمة، اخترت لها النجم نور الشريف ليكون ضيفا ومتحدثًا رئيسيا، لما يعرف عن هذا النجم وحجم ثقافته الموسوعية، عكس الكثير من الفنانين يتألقون أمام الكاميرا لكن ثقافتهم محدودة للغاية، وفعلا اتفقت مع النجم نور الشريف وطلبت منه ترشيح ناقد يكون معه في اللقاء فقال: علي أو سمير فريد!

قلت: علي مين تقصد حضرتك؟
قال: أبو شادي طبعا!

بالتأكيد كنت أعرف الناقد علي أبو شادي الذي بدأ الجميع يعرفه منذ السبعينيات، لكنه اعتذر نظرا لسفره لحضور أحد المهرجانات العالمية ربما يكون مهرجان كان، وشارك معنا الناقد الكبير سمير فريد في اللقاء، لكن علاقتي استمرت ولم تتوقف، فهو المثقف الذي أطلقت عليه السهل الممتنع، فإذا التقيته فهو مبتسم دائما، لا تشعر معه أن هناك مشكلة قط، إنسان متصالح مع نفسه بدرجة مدهشة، تجعلك تقترب منه بحب وثقة وأمان، وعندما تتأمل سيرته، ستندهش من عدد المناصب التي كانت تطارده، وكان يعتذر عنها للوزير ويفاجأ بصدور قرار بتحمل مسئوليتها..

على سبيل المثال عندما اقترب الدكتور جابر عصفور من مغادرة منصبه كأمين للمجلس الأعلى للثقافة، كان السؤال الذي يطارد الوزير الفنان فاروق حسني من يأتي بعد الدكتور عصفور الذي قضى سنوات طويلة في منصبه؟ اعترض الوزير على أحد العاملين في المجلس وقال يومها قائلا: إنه لا يصلح ليكون الرجل الأول!

هنا اقترح الدكتور جابر عصفور المنصب على الناقد علي أبو شادي، إلا أنه اعتذر أبو شادي وبرر ذلك أنه لا يزال يعاني من عملية القلب ولا يتحمل عبء المجلس، إلا أن أبو شادي فوجئ بقرار تعينه أمينا للمجلس الأعلى ويكون أول من يتولى هذا المنصب ولا يسبق اسمه حرف الدال، فكانت هناك مشكلة في رأس المستشارين حول الوزير أنه لا بد على من يتولى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة لا بد أن يحمل الدكتوراه، في حين ودون أن ينتبهوا أن الوزير فاروق حسني لا يحمل دكتوراه!

وأتذكر أنني سألت الدكتور جودة عبد الخالق الاقتصادي الكبير عن أفضل الفترات التي عمل فيها في لجان المجلس الأعلى للثقافة.. قال: الفترة التي تولى فيها علي أبو شادي، كان راقيا ومثقفا ولم يتدخل في عمل اللجان وينفذ قراراتنا على الفور بقدر سلطاته وإمكانيات المجلس.

الحديث عن المثقف الكبير يمكن أن يطول لكن أود أن أطرح رؤيته لحالة الثقافة قبل رحيله، ولأنه ابن الثقافة الجماهيرية وعمل سنوات فيها سواء قيادة صغيرة أو رئيسا لها فكان يتحدث بمرارة عن حالة التدني في الأداء لوزارة الثقافة عامة والهيئة خاصة، وبل حالة العجز الذي وصلت إليها، وعن الثقافة الجماهيرية، قال إنها أهم وأخطر جهاز يمكن أن يؤثر، ويغير في المجتمع تغييرا جذريا، بل يمكن إلغاء وزارة الثقافة وتبقى الثقافة الجماهيرية، لأنها ببساطة تجمع فيها كل عناصر قطاعات وزارة الثقافة، فيها هيئة كتاب مصغرة، فيها هيئة مسرح مصغرة، فيها قطاع للفن التشكيلي مصغر...إلخ وبالتالي أنها تقدم كل ما تقدمه قطاعات الوزارة المختلفة باستثناء الأوبرا فقط!

وكان يرى أن الحل لعدم وجود قيادات على المستوى اللائق بهذه الهيئة، عمل مجلس إدارة للهيئة يضم كل رؤساء الهيئة السابقين، وهذا المجلس المسئول عن الهيئة فعليا ويكون رئيس الهيئة هو الرئيس التنفيذي للهيئة! وأضاف الناقد: ما كان يطبق في الستينيات ليس بالضرورة يصلح الآن، لكن علينا أن نخلق آليات جديدة من خلال هذه الهيئة الجبارة.

وعن دور الثقافة في المجتمع قال: لن يعود إلا إذا أدركت الدولة أهميتها ودورها الحقيقي في بناء الإنسان، كما كان تدرك هذا الدولة في الستينيات؟ للأسف من الناحية العملية لم تعد هيئة قصور الثقافة تؤدي أي دور يذكر، هيئة أصابها الترهل، العجز في كل شيء، الإدارة، انعدام الرؤية للدور الحقيقي الذي يجب أن تلعبه في تنوير وتغيير المجتمع، المجلس الأعلى للثقافة فقد دوره الحقيقي منذ سنوات، قطاع الفنون التشكيلية فقد دوره تماما، نشاط الأوبرا لا يتعدى نشاط إدارة عامة فقط، وبالتالي أصبحت وزارة عبئا بلا دور في المجتمع!

وهنا أذكر أنني سألته هل عرض عليك وزارة الثقافة!؟ قال: أكثر من مرة بعد 25 يناير، لكن رفضت تماما، لأن العمل يحتاج إيمانا من الدولة أولا بدور الثقافة، وهذا مفتقد تماما منذ الستينيات حتى الآن، وبالتالي لا يسعدني لقب وزير ولا معاش وزير!

رحم الله المثقف الكبير علي أبو شادي وأتمنى الاستفادة من تراثه المنشور في كافة القضايا الثقافية، فالرجل لم يبخل بجهد أو عطاء لبلده طوال أكثر من أربعين عاما!
الجريدة الرسمية