شركة الموت
في مدينة "شيسترفيلد" بولاية مونتانا الأمريكية على الحدود الكندية، يقع مركز الأبحاث الرئيسي لشركة صارت اليوم إمبراطورية اقتصادية كاملة، تتحكّم في كل منتجات العالم الزراعية تقريبًا، وتمتلك أكثر من 70% من أسواق البذور في العالم، وعلاقات جيدة مع عدد من حكومات العالم.
شركة خرج من أجلها نحو 2 مليون شخص في أكثر من 50 بلدًا في أنحاء متفرقة من العالم للاحتجاج على منتجاتها من الكيماويات والبذور الزراعية المعدلة وراثيًا، التي تضرّ بصحة الإنسان والبيئة حسبما يقول الخبراء، بعد أن استطاعت الشركة الحصول على حماية قانونية من الكونجرس الأمريكي يسمح لها، وللشركات المماثلة، بزراعة منتجاتها وبيعها حتى وإن كانت تواجه قضايا قانونية تتعلق بأضرار هذه المنتجات صحيًا وبيئيًا.
تأسست شركة "مونسانتو" عام 1901، بوصفها شركة لتصنيع المواد الكيماوية، وكانت إحدى الشركات التي أجرت أبحاثًا لتصنيع القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية، كما أدارت معملًا نوويًا للحكومة الأمريكية إلى أواخر الثمانينيات.
وكان أبرز الأنشطة التي سلطت الضوء على الشركة، مساهمتها في إنتاج المادة الكيماوية (العامل البرتقالي Agent Orange)، التي استخدمتها الولايات المتحدة في الحرب على فيتنام؛ بهدف ضرب المحاصيل الزراعية؛ ليثبت لاحقًا أن قوة هذه المادة التي أنتجتها الشركة كانت تفوق قوة المادة نفسها التي أنتجتها الشركات الأخرى بألف مرة؛ أي أن تركيز المواد السامة في هذه المادة، وهي الديوكسين، كان أعلى.
وعرضت مادة (العامل البرتقالي) نحو 3 ملايين شخص في فيتنام للتلوث بمادة الديوكسين، وأدت إلى تشوهات خلقية لدى ما يقارب 500 ألف طفل.
واجهت الشركة في عام 1978 دعوى قضائية أقامها ضدها مجموعة من المتقاعدين العسكريين الأمريكيين الذين شاركوا في الحرب ضد فيتنام؛ بسبب تعرّضهم لهذه المادة، التي أصابتهم بأمراض متعددة، وانتهت القضية بتقديم تسوية مالية لهم.
وقام مجموعة من المحامين الأمريكيين عام 2004 برفع قضية ضد الشركة في المحاكم الأمريكية، ووجّهوا لها تهمة خرق القانون الدولي، وارتكابها جرائم حرب، لكن الدعوة أُسقطت؛ لأن الحكومة الأمريكية هي التي عيّنت الشركة لصناعة هذه المادة.
وتورّطت الشركة أيضًا لمدة 50 عامًا في صناعة المواد الكيماوية المعروفة بالـPCBs، وهي زيوت تبريد كانت تستخدم في كثير من الأجهزة الإلكترونية إلى أن حُظرت عام 1979، بعد أن ثبتت خطورة أثرها في البيئة والإنسان.
وبقيت ملفات الشركة حول عملياتها في تصنيع هذه المواد سريةً إلى عام 2001، عندما تقدّم 20 ألف أمريكي من بلدة آنستن بولاية ألاباما، حيث كانت الشركة تشغّل مصنعًا لصناعة هذه المادة، بدعوى قضائية ضد الشركة نتيجة الأمراض التي أصيبوا بها، والتشوهات الخلقية التي لحقت بأطفالهم.
وعندما جلبت المحكمة ملفات الشركة تبين أن الدراسات التي أجرتها الشركة داخليًا كانت تؤكد الآثار الخطيرة للمواد التي تنتجها، وأنه تم الاعتراف داخليًا بتفشّي المشكلة في كل من: الولايات المتحدة، وكندا، وأجزاء من أوروبا، لكن المسئولين في مونسانتو ردّوا على هذه النتائج بقولهم: «لن نقبل خسارة دولار واحد»، واستمروا في إنتاجهم لها، ودفعت الشركة تعويضات لبلدة آنستن وسكانها قُدِّرت بـ700 مليون دولار.
وطورت الشركة كذلك مبيدًا للأعشاب الضارة، يحمل الاسم التجاري RoundUp، ولاقى هذا المنتج نجاحًا كبيرًا في المبيعات بشكل فاق المنتجات الأخرى للشركة.
ومع سيل الانتقادات والدعاوى القضائية، التي كانت تتعرّض لها الشركة، رأت أن تغيير مجال عملها من صناعة الكيماويات إلى الزراعة سيكون مخرجًا جيدًا للمأزق الذي وجدت نفسها فيه؛ لذا أُعيد تشكيل الشركة بوصفها شركةً منفصلةً قانونيًا عن الشركة السابقة، وإن ظلت تحمل اسمها، وتحتفظ بمقرّها الرئيس، وعدد كبير من موظفيها.
وأدرك مسئولو شركة مونسانتو الزراعية الجديدة أن نجاح شركتهم يعتمد على منتج واحد، هو مبيد الأعشاب RoundUp، وأنه بمجرّد انتهاء صلاحية براءة الاختراع سيواجهون مشكلة حقيقية في المحافظة على مبيعات الشركة؛ لذا ظهرت فكرة إنتاج العضويات المعدلة جينيًا (Genetically Modified Organisms GMOs)؛ فأصبحت الشركة تنتج محاصيل زراعية معدلةً جينيًا تقاوم منتجها الرئيسي RoundUp.
وهذا الأمر يعني أنه أصبح بإمكان المزارعين رش محاصيلهم الزراعية بالمبيدات خلال الموسم الزراعي، بدلًا من رشها خارج الموسم حتى لا تتأثّر محاصيلهم، وبذلك ضمنت الشركة تفوّق منتجها الرئيسي على بقية المنتجات المنافسة لدى انتهاء مدة براءة الاختراع، كما ضمنت تسويق سلع جديدة مع هذا المنتج، وهي البذور المقاومة له.
أصبحت شركة مونسانتو اليوم من كبرى شركات التكنولوجيا الحيوية biotechnology في العالم؛ فهي مسئولة عن نسبة هائلة من إنتاج البذور في العالم.
وتتميّز البذور التي تنتجها الشركة بقابليتها العالية للتطاير؛ إذ بإمكانها الانتقال بفعل الرياح مسافة تقارب 800 كم خلال 24 ساعة، وهو ما يشكل خطورةً عاليةً على أيّ مزارع اختار الاستمرار في زراعة البذور التقليدية؛ لأن دخول البذور المعدلة جينيًا أرضه يعني تلوث المحصول عدة سنوات مقبلة، إضافةً إلى خرقه شروط براءة الاختراع الخاصة بشركة مونسانتو إذا قام هذا المزارع باستخراج بذور من أرضه لزراعتها في الموسم المقبل، كما أن الشركة تلاحق المزارع الذي توجد بذورها في أرضه من دون حصوله عليها من الشركة نفسها، ودفع الرسوم اللازمة لها، وتوقيع اتفاقية تضمن خضوعه لشروطها.
وتضمن شركة مونسانتو بهذه الطريقة اعتماد المزارع عليها وعلى البذور التي تنتجها بعد أن فقد قدرته على إنتاج بذوره الخاصة.
وأشارت دراسة فرنسية نشرتها صحيفة "دايلي ميل" البريطانية عام 2012 إلى أنه بعد إجراء تجارب على الفئران توصّلت إلى أن تناول الذُّرة المعدلة وراثيًا، التي تنتجها شركة مونسانتو، يتسبّب في الإضرار بأجهزة الجسم، وربما يتسبّب في الإصابة بأنواع معينة من السرطان، أو في الوفاة المبكرة.
منعت بيرو بأمريكا اللاتينية استيراد المحاصيل المعدلة وراثيًا لمدة عقد كامل حتى تتضح أضرارها على السلامة، ثم تبعتها المجر التي قامت بحرق 1000 فدان من المحاصيل الملوثة بالحبوب المعدلة وراثيًا الخاصة بشركة مونسانتو، التي تعدّ ممنوعةً وفقًا لقانون البلاد.. فهل تحذو مصر حذو بيرو والمجر؟!