«نصاب» بدرجة ممثل
كنت قد انتهيت من درس الموسيقى لأغادر مبنى "الكونسرفتوار" حيث استقبلتني لسعات البرد، بينما تجولت عيني في طرقات الشوارع التي غسلتها الأمطار صانعة لوحة فنية بعد أن جعلت المنازل تتخلص من الأتربة المتراكمة لتعود أصغر سنًا، وامتزجت المياه مع رائحة الزرع والطين التي انسابت بصحبة الرياح لتصنع انطباعات ومشاعر مميزة لمدينة الإسكندرية في الشتاء.
ورغم مرور عشر سنوات إلا أنني أذكر هذه الليلة جيدًا، عندما أوقفني أحدهم ليخبرني أنه جاء من محافظته إلى الإسكندرية مستقلًا القطار على أمل الحصول على فرصة عمل، لكنه لم يُوفق ويَرغب الآن في الحصول على ثمن تذكرة العودة.
أقنعتني طريقته في الحديث لدرجة أجبرتني على التخلي عن كل ما في جيبي من أموال لصالحه، لكن سوء حظه جعلني أراه بعد أسبوع في مكان آخر، حيث أوقفني مجددًا ليحكي لي عن عمه الذي سرق ميراثه، وطلب مني مساعدة ليستأجر محاميًا للدفاع عن حقوقه!
كان يسرد القصة بالقدرة نفسها على الإقناع.. بحبكات تليق بكتَّاب الدراما.. وأداء يليق بالشعراء.. وتعبيرات لا يُجيدها إلا عباقرة التمثيل.. لكنه لم يتذكر أنني أحد ضحاياه السابقين.. انتظرت بعدما انتهى تمامًا من حديثه لأخبره بهدوء أن هذه القصة مقنعة أكثر من حكاية البحث عن عمل ونصحته باستخدامها في المستقبل، فضحك بشدة قبل أن يغادر مسرعًا ليتركني في حيرة وتساؤلات عن الدافع الذي يجعل أحدهم يستخدم ذكاءه وقدراته ومهاراته في "النصب" على الآخرين بدلًا من تسخيرها في العمل الجاد.
وهو سؤال كلما فكرت في إحالته إلى ظروف راهنة تصدمني حقيقة وجود أمثال هؤلاء في كل زمان تقريبًا.. فقبل أكثر من مائتي عام كانت مدينة الإسكندرية المحطة الأولى للجيوش الفرنسية قبل توجهها إلى القاهرة التي دخلوها بعد هزيمة المماليك ليقوم بعدها الجنود الفرنسيين باستكشاف المدينة والتجول في أسواقها.. وقد تعجب الناس من شرائهم للبضائع بدلًا من سرقتها، خاصة أنهم اعتادوا على جرائم المماليك.. ويحكي "الجبرتي" أن العامة اطمأنوا لهم فخرجوا إليهم بأنواع الكعك والفَطير والخبز والمأكولات المختلفة، وصاروا يبيعون لهم بأسعار مرتفعة بل قام البعض بالغش في المنتجات فأصبحوا يصغرون أقراص الخبز أو يعجنونها بالتراب!
خيوط مشتركة تجمع التاجر الذي خلط الدقيق بالتراب مع ذلك الرجل سليم البنية والعقل الذي امتنع عن العمل مفضلًا خداع السائرين في الشوارع كوسيلة لكسب العيش، ويتشابهون جميعًا مع نماذج أخرى منها سائق التاكسي الذي يتلاعب في عداد الأجرة أو الشاب الذي اخترع لنفسه وظيفة تقتصر على تلقي الأجر من أصحاب السيارات تحت مسمى حراستها وغيرهم ممن يستخدمون ذكائهم في التسلل إلى جيوبنا التي أصابها الإرهاق بينما يبتعدون دائمًا عن الصدق في أعمالهم المختلفة.
لا يغضبني هؤلاء بقدر إثارتهم لأسئلة كثيرة في عقلي.. أجدهم شخصيات تستحق الدراسة والتأمل لمعرفة مدى انتشار سلوكياتهم بيننا.. ومدى تواجد ثقافتهم وترسبها في معاملاتنا المختلفة.. وأيًا كانت الإجابة، فعلينا فهم عيوبنا بصدق حتى نتخلص منها.