رئيس التحرير
عصام كامل

الدكتور فينيس جودة: عاصرت 5 رؤساء.. ومبارك كان الأكثر صبرا على سماع مشكلات العلماء

فيتو

  •  "نجيب" أرسل لي إهداء بخط يده.. وعبد الناصر كرمني بعد الحصول على الدكتوراه 
  •  توليت الوزارة بعد وفاة زوجي.. وهذه قصة "شوبينج أمريكا" مع عاطف صدقي
  •  استعنت بسيارة أخي لحضور مقابلة حلف اليمين.. والرئيس قال لي: "اسمك غلبنا يا فينيس"




لم يكن الأمر اختيارا، من البداية وجدت نفسها محاطة بأحداث سياسية لم تكن هي تُدرك تأثيرها عليها فيما بعد، وٌلدت فينيس جودة وزيرة البحث العلمي السابقة في عام 1934، وبعد ولادتها بأشهر قليلة كانت مصر تموج بمظاهرات سياسية تطالب بعودة الدستور، أشهر أخرى مرت حتى صدر قرار إلغاء معاهدة 1936 وما إن شبت حتى قامت ثورة يوليو التي ستغير مسارها فيما بعد.

لم تكن "جودة" غريبة عن مجتمع الضباط الأحرار، من يتحكمون في البلاد ويديرون سياستها، جارها قبل ثورة يوليو كان اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية، لذلك لم تصدق نفسها حين رأته في موكب من يحكم المحروسة، وقتها صفقت بحرارة وحماسة ولم تتوقع أن يصلها إهداء بخط نجيب ذاته يشيد بحماسها الوطني، وهو الإهداء الذي احتفظت به أول وزيرة للبحث العلمي، وحصلت فيتو على نسخة منه. 

"فينيس" كسيدة كانت تدرك منذ ريعان الشباب أن مكانها على الخريطة السياسية غير موجود، لكن ذلك لم يمنعها أن تكتشف وتتحسس طريقها الذي بدأ من منطقة الزيتون مسقط رأسها.

كطفلة نشأت على حب العلوم، وقت أن كانت المناهج الدراسية تحوي الكثير من المعلومات الغزيرة، المسار التعليمي المتفوق بدأته بشكل مستمر، ولم تلتفت كثيرًا للأحوال السياسية حتى كرمها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حين حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة 1963.

تستعيد فينيس ذكرياتها في حقبة الزعيم فتقول: "كان دائم الاستعانة بالباحثين في كل المجالات حتى مجالات الحرب، وذلك قبل عام 1967، وكان شديد التركيز على المواد والغازات الخطرة، مستعينًا بالمركز القومي للبحوث، وقتها كانت الأبحاث كلها تطبيقية وجميع أقسام المركز كانت هادفة، وذلك بسبب إحساسهم بالمسئولية وثقة القيادة السياسية بهم وبدورهم.

وبحسب «فينيس» لم يستمر الأمر طويلًا، فبعد ذلك جاءت حرب 1967 وبات شعار" لا صوت يعلو على صوت المعركة" هو الأساس، وهو ما مثل انتكاسة للبحث العلمي أيضا فتراجعت ميزانيته.

في عهد السادات اختلف الأمر كثيرًا، "في تلك الحقبة تكدس الباحثون وأصبحت الأبحاث غير مفيدة، لكن على المستوى المهني ظلت هي في تقدم مستمر طوال عهد السادات، بل وحصلت على جائزة الدولة التشجيعية في مجال الكيمياء عام 1973، ثم قضت فترة من تلك الحقبة تعمل في الكويت، ولم تكن تحلم بأكثر من أن كونها عالمة في تخصصها «علم الكيمياء» والحصول على الجائزة تلو الأخرى، لكن الدور الذي لعبته بعد ذلك كان أكبر مما توقعته بكثير، فبعد فترة من العمل كنت على موعد مع تغيير مسار حياتها، تحديدًا حين جاءها اتصال تليفوني من مكتب الدكتور عاطف صدقي رئيس الوزراء الأسبق.

بضحكة من تُفرحه تلك الأيام تروي «فينيس» تلك اللحظات فتقول: "مع بداية عهد الرئيس الأسبق مبارك بدأت الأنشطة تعود إلى المركز القومي للبحوث، الذي كنت أعمل به بعد عودتي من الكويت، ووصلت لمنصب نائب المركز، وإن كانت الخصخصة في بداية عهد مبارك أثرت على ميزانية البحث العلمي، لكن الأمر سار بشكل جيد.

في عام 1993 جاءها اتصال تليفوني من مكتب رئيس الوزراء، وأخبرها أن هناك اتصالا آخر، وبعد 30 دقيقة وجدت على الهاتف عاطف صدقي يعرض عليها أن تتولى وزارة البحث العلمي، ومقابلتها قبل حلف اليمين.

فوجئت بنت الزيتون بهذا التكليف الذي لم يخطر على بالها في مسيرتها المهنية، لحظات من التوتر انتابتها، لكنها كما تقول استجمعت قواها واقترضت سيارة بسائق من أخيها، لأنها لم تكن تملك إلا سيارة صغيرة لم تكن تليق بالحدث، لتحدث المقابلة التي تقول عنها «قابلني صدقي بابتسامته البشوشة وكلماته الطيبة فامتص مني كل التوتر الذي كان ينتابني، وقال لي أظن هتنزلي تعملي شوبينج، فقلت له مستعدة حيث كنت قبلها بفترة قصيرة في أمريكا لمقابلة ابنتي التي كانت قد هاجرت مع زوجها، وكنت أستمتع بالتسوق خاصة من هناك وكان عاطف صدقي يعرف ذلك».

وتشرح أول وزيرة بحث علمي أنها بدأت توليها لمنصب الوزيرة بالسهر في الوزارة لساعات متأخرة، لوضع الخطط ومتابعة سير الأعمال، حتى إن المستشارين قالوا لها «فاضل نجيبلك سرير هنا»، بجانب استعانتها الدائمة بالعلماء في كل ما يخص الملف العلمي.

علاقتها مع مبارك كانت الأكثر تميزًا، وتتذكر أول لقاء جمعها به، بعد توليها المنصب حين داعبها قائلًا «اسمك غلبنا» وذلك لعدم اعتياده على اسمي، ولكنه كان أكثر رئيس جمهورية أدرت معه مناقشات حول البحث العلمي وسبل تطويره، وكان مهتمًا وصبورًا على سماع التفاصيل العلمية الدقيقة.

اختيرت فينيس كوزيرة في حكومة عاطف عبيد في وقت كانت فيه الدولة تولي اهتماما خاصا بالمرأة :"توليت الوزارة مع وجود الدكتورة آمال عثمان التي كانت متولية حقيبة التضامن الاجتماعي لنكون بداية تشكيل نسائي داخل المجلس، كما كان يطلق علينا الرئيس مبارك"

الجانب الأسري في حياة الدكتورة فينيس جودة ليس للنشر، هو حقها وخصوصيتها التي لا تريد أن تعلن عنها، لكن هناك استثناءات بسيطة سمحت بها لـ«فيتو» عن كيف قضت من أفنت في البحث العلمي عمرها حياتها الأسرية.

لم تبدأ أول وزيرة للبحث العلمي الحديث عن بداية الزواج بل قفزت إلى اللحظة التي تولت فيها الوزارة، والتي جاءت بعد فترة قصيرة من وفاة زوجها، لذلك لم يكن هناك تضاد كبير بين مسئوليات الوزارة والحياة الأسرية، وإن كان هي نفسها لا تحب الإجازات الكثيرة بل وكشفت أن أطول إجازة حصلت عليها كانت 40 يومًا من أجل الحمل والولادة.

نصيحة فينيس جودة للنجاح تتلخص في إدارة الوقت فهو سر النجاح كما تقول، لذلك كانت دائما ما تسكن بجوار مقر عملها لتوفير وقت المواصلات ولتراعي بيتها، بعد أن أنجبت ابنتين استحقا منها رعاية مكثفة، بل ومن خلال الصبر استطاعت أيضًا أن تتغلب على جميع منافسيها.

لم يكن الطريق مفروشا بالورود، ولم يكن الجميع يساعدها، ففي كل خطوة كان هناك من يكرهون نجاحها، ويعملون على إسقاطها من كل منصب، لكنها تخطت كل ذلك متبعة المثل «اصبر على الجار السو»، لكن ما لم تستطع فينيس جودة نسيانه هو مقولة إبراهيم سليمان وزير الإسكان الأسبق الذي قال لها «بحث علمي إيه ده اللى هنتناقش فيه» لكنها تقول إن المشير محمد حسين طنطاوي كان أحد المؤمنين بالبحث العلمي وكان يشيد بدورها بشكل مستمر مما جعل إبراهيم سليمان يعتذر لها فيما بعد.

من الناحية العملية، تقول أول وزير للبحث العلمي إن عاطف صدقي كان شديد الترحيب بالملف العلمي، وتم تشكيل لجنة وزارية عليا لمناقشة دوره في خدمة كل القطاعات الأخرى، لكن ما حدث بعدها هو دمج التعليم العالي بالبحث العلمي، وكان الاهتمام بالشق الأول فقط، وفي رأي من تولت وزارة البحث العلمي لمدة 4 سنوات فإن دمج التعليم العالي بالبحث العلمي لا يعد السبب الأساسي في إهدار قيمة البحث العلمي، لكن العامل الأكبر يتمثل في تفعيل البحث العلمي التطبيقي الذي يعمل على تنمية الاقتصاد وعمل مشاريع بحثية تخدم المجتمع، كما أن هناك ضرورة لأن يكون هناك تكليفات للباحثين وهو ما يحتاج أيضًا بيئة تشريعية.

في عهدها خصصت فينيس عيدا للبحث العلمي، وتم تكريم عدد من علماء مصر مثل الراحل أحمد زويل، وذلك بعد ترشيح أكثر من عالم، وكان المفترض أن يتم تكريم مجدي يعقوب في العالم التالي، لكن تم إلغاء هذا العيد، لأن الرئيس لم يكن متفرغا ومع تشكيل حكومة الجنزوري كانت له أولويات أخرى وتركت أنا منصب الوزير في 1997.

وتؤكد «فينيس» أنها طوال عهدها كانت دائمة الاستشارة للعلماء مثل أحمد زويل وفاروق الباز وأحمد عبد العال، كما أنها انتهت من نموذج لتدوير القمامة ورحب به مبارك، وبالفعل كان أول من افتتح مصنع تدوير القمامة في الشرقية بتكنولوجيا مطورة من البحث العلمي، وكان المفترض أن يمتد المشروع ليشتمل 20 مصنعا بالمحافظات. لكنه ذهب مع الريح كما ذهبت مشروعات أخرى كانت ستعطي شكلًا جديدًا لمصر وتوفر عليها سنوات من التأخير في مجال البحث العلمي.

ورغم أن أحلاما كثيرة تحققت لـ"فينيس" على المستوى العلمي والمهني فإن هناك أحلاما أخرى لم تتحقق، فالوزيرة التي قضت عمرها في أروقة البحث العلمي لم تستطع إنشاء متحف كبير للعلوم والتكنولوجيا يكون مزارًا لجميع الأعمار، بل إنها حاربت لتنفيذه واستطاعت تحقيق بعض الخطوات بمساعدة منظمة اليونسكو وألمانيا التي أعلنت منحها بعض المعدات، بالإضافة إلى الحصول على أرض المعرض لكن العراقيل كانت كثيرة وبسببها لم ير مشروع المعرض النور.

حلم آخر كان لفينيس وهو وجود إستراتيجية تنمية تكنولوجية كاملة يكون هدفه تفعيل التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية، وهذا من شأنه إحداث طفرة علمية، لكن المشروع كان يحتاج دفعة من القيادة السياسية وهو ما لم يحدث، كما كان يحتاج مشاركة قوية من القطاع الخاص الذي لم يكن لديه أي ثقة كاملة في هذا الوقت لدعم تلك المشروعات، رغم أن الإستراتيجية كان بها دراسات عن السوق وآلية التطبيق لكنه في النهاية لم يُنفذ.
بعيدا عن المنصب الرسمي كان لـ "فينيس" حضور طاغ في مجال البحث العلمي تمثل في تقديم 141 بحثا علميا وبراءتي اختراع أحدهما في مجال «الترسيب الكهربي لفلز التيتانيو وسبائكة» وهي براءة تم تسجيلها في الولايات المتحدة الأمريكية و12 دولة أوروبية أخرى، والثانية في مجال حماية حديد التسليح من التآكل.

كما ترجمت نتائج الأبحاث العلمية لفينيس جودة من خلال 12 مشروعًا قوميًا مختصًا بتآكل الفلزات والسبائك، و4 مشروعات مع دولة الكويت و3 مشروعات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأسفرت جميعها عن نتائج لها قيمتها الاقتصادية بحماية المنشآت الفلزية والهندسية، كما شملت مؤلفاتها المرجعية على كتاب و3 مقالات في مجال تآكل الفلزات والسبائك النظرية والتطبيقات العلمية والميدانية، وتعتبر فينيس أول سيدة في مصر يتم منحها درجة الدكتوراه في العلوم بناء على تزكية الجمعية الملكية بلندن، فقد اختيرت عام 1999 من ضمن 10 سيدات من منظمة العالم الثالث للمرأة في العلوم الدولية والمحلية كرائدات في مجال العلوم والتكنولوجيا نظرا لإسهاماتها العالمية والمحلية في مجالها.

ومن الماضي إلى الحاضر لم تنعزل فينيس جودة عن الحياة العامة التي قضت فيها حياتها، ظلت تتابع وتحلل وتعلن مواقفها حين يتطلب الأمر ذلك، وعلى المقابل لم تكن هي غائبة عن القيادة السياسية فحصلت في مايو الماضي على جائزة النيل وكرمها الرئيس عبد الفتاح السيسي ضمن احتفالية ضمت الحاصلين على تلك الجائزة من العلماء وأصحاب الإسهامات العلمية.

وتقول فينيس جودة عن هذا التكريم إنه الأفضل في حياتها العلمية، لافتة إلى أنها تحدثت مع السيسي قائلة: «أرجو أن تدعم التنمية التكنولوجية» ليجيئها الرد من الرئيس بقول «حاضر».

وترى أول وزيرة للبحث العلمي أن السيسي لديه رؤية خاصة بالبحث العلمي، واستغل المرأة جيدًا في ذلك، لكن يجب أن يكون هناك تكليفات واضحة ومباشرة للعمل، مؤكدة أنه ليس ضروريًا أن يكون وزير البحث العلمي باحث في الأصل، فهناك دول كلفت وزارة الدفاع بقيادة هذا القطاع، فالتخصص ليس ضرورة ولكن النهوض بالمنظومة هو الضرورة.

وعن النشاط النووي ترى وزيرة البحث العلمي السابقة أن الاعتماد عليه بالكلية لن يسد كل احتياجات مصر من الطاقة، كما أن اليورانيوم معدن غير متجدد وسينفد، وهذا ما يؤكده تقرير يابانى معتمد على بيانات من وزارة الطاقة الأمريكية، يوضح أن اليورانيوم سينتهى عام 2038، لذا يجب أن ننظر للمصادر المتجددة مثل الشمس والرياح وأنا قدمت مشروعًا لاستثمار الطاقة الشمسية بالتعاون مع معهد روكهل الأمريكى وعرضته على مجلس الوزراء لكنه «اتركن».

وتؤكد أنها تتمنى أن يكون هناك مشروع قومي يستهدف محو الأمية على غرار مشروع مصر خالية من فيروس سي، على أن يتم القضاء على الأمية خلال عامين، مشيرة إلى أن الاستعانة بتجارب الدول الأخرى أساس النهضة الحقيقية، بجانب التطوع الذي يجب تشجيعه لدى المواطنين للقضاء على هذا الخطر.

وتوضح «فينيس» أن فنلندا بها أفضل تعليم في العالم، وتعمل على ترغيب الأطفال في التعليم من خلال ساعات دراسية، وامتحانات أقل من المعتاد وهي تجربة يجب الاستعانة بها، كما يجب دراسة الطبيعة المجتمعية للمحافظات، فدمياط والمنوفية مثلًا الأقل من ناحية الأمية في مصر، ويجب الوقوف على الأسباب التي أدت لذلك.

حلم التنمية التكنولوجية لم ينته بعد، هذا ما تكشفه فينيس جودة بعد أن التقت اللواء محمد العصار وزير الإنتاج الحربي، الذي أخبرها أن الطفرة التكنولوجية ستعود قريبًا، وستتمثل في صنع منتجات محلية، مؤكدًا لها أن مصر لديها المقومات لكنها تفتقد التنظيم من خلال مشروعات واضحة ومهام لكل تخصص، وهو ما يتم حاليًا من خلال إشراك البنك الدولي، وفي ظل قيادة سياسية تهتم بالعلماء وتستعين بباحثين من الخارج.

الحوار منقول بتصرف عن النسخة الورقية لـ "فيتو"

الجريدة الرسمية