رئيس التحرير
عصام كامل

أوجاع اليمن حاضرة في معرض الكتاب.. يمنيات يروين حكايات الغُربة والحرب

فيتو

عند التجول في الطابق الأرضي بمبنى صندوق التنمية الاجتماعية بمعرض الكتاب، يجذب الجناح اليمني الأعين بعلمه الذي يزين مدخله.. علم يطابق علم مصر ولكن بدون النسر.. لم يكن العلم فقط ما يلفت الأنظار هناك، فالجناح يحوي مجسمات لنماذج من العمارة اليمنية تحمل الزوار في رحلة سريعة إلى معالم البلاد.. باب اليمن الكبير.. حصن الغويزي بحضرموت.. بقايا عرش سبأ.. نماذج من القمرية التي تزين البيوت هناك بألوانها الزاهية وأشكالها الهندسية.. أما جدران الجناج فتغطي جزء منه صورًا فوتوغرافية تطوف بالزوار حول مواطن الجمال في اليمن.. عدن الساحرة وجزيرة سقطري بأشجارها النادرة وساعة بيج بن الصغيرة التي بنتها بريطانيا لتشبه بيج بن لندن.

جميعها معالم تزين اليمن.. الذي كان سعيدًا قبل أن تدخل الحرب أراضيه وتغرقه في أمواج الدمار والقتل والأمراض.. وتقذف أهله في دوامات الأحزان لسنوات وسنوات.. معالم كانت تحكي عنها وداد عوض، أحد المسئولين عن الجناح اليمني بالمعرض، وموظفة بالمركز الثقافي اليمني في مصر، ومشاعر الفخر تبدو واضحة في عينها.. ولكن وسط الحكي غلب الحزن الفخر وترقرقت في عيونها عبرات.. فلم تعد متأكدة من أن هذه المعالم التي تحكي عنها لا تزال على حالها.. فتوقفت حكاياتها عن معالم اليمن وبدأت في رواية حكايات عن الحرب التي غيرت معالم البلاد.. وغيرت معها حياة أهلها.

 
نماذج من العمارة اليمنية بالجناح اليمني في معرض الكتاب

"كنت بعيش في صنعاء.. الحياة كانت جميلة كتير هناك.. حتى بعد الثورة ما قامت ما كان بيحصل أشياء كتير خطر. كنت أنا وبناتي وزوجي حياتنا مستقرة حتى عام 2014.. لما قامت الحرب.. الدنيا في صنعاء أصبحت صعبة ووقتها الحياة استحالت هناك وضاعت مع كل اللى كان بيحصل أحلامنا.. أطفالي كانوا بيتفزعوا من صوت الصواريخ.. ولحد دلوقتى الحرب سايبه أثر كبير فيهم"، تحكى وداد عن بداية رحلة البحث عن الأمان.. الرحلة التي كانت حضرموت المحطة الأولى فيها حيث كانت الأوضاع هناك أكثر هدوءًا من صنعاء، ولم تلبث أن سافرت منها إلى السعودية، حتى وصلت إلى محطتها الأخيرة.. إلى مصر.. حيث تعيش وتعمل منذ 6 أشهر فقط.

السيدة وداد تنظم الأرفف في جناح اليمن بالمعرض

بطبيعة الحال لم يكن هذا التحول الذي طرأ على حياة وداد وأسرتها باليسير، فقد تغيرت معه كل شيء "الحرب أثرت فينا وفرقت شملنا.. فرقت العوايل.. حتى أسرتى الصغيرة تفرقت بسبب هذه الظروف الصعبة.. الحرب حاجة مريعة ودمرت كل شيء".

لم تنس وداد يومًا بالرغم من مرور السنوات وابتعادها عن متابعة الأحداث بشكل مباشر، صديقتها التي فقدتها في لمح البصر "كنا لسه متخرجين من الماجستير ومستعدين ناخد الشهادة.. فجأة.. جه صاروخ أنهى حياتها هي وأخواتها.. عيلة كاملة راحت في ثانية.. انتهوا هما وأحلامهم وأعمارهم"، حكت وداد وصوتها يغالبه البكاء، "بقينا لما بنسمع عن اليمن ونتكلم عنها بنبكي.. بندعى الله أن يفرجها وأن تكون هناك بداية جديدة لأن اليمن بلد جميلة وحضارتها عريقة وناسها طيبين بس مش عارفين ايه اللى حصل بينهم".

السيدة وداد: الله يفرجها على اليمن.. بلد جميل وحضارته عريقة وناسه طيبون

أما رفعة، ابنة وداد ذات الـ 12 عاما، التي تجملت بارتداء الزى اليمني القديم وجلست في الجناح تستقبل زواره، بالرغم من أنها تعيش الآن في مصر ولم تعد تسمع بعد أصوات الصواريخ، إلا أنها لم تستطع أن تمحى ذكريات الحرب من نفسها وذاكرتها، "أنا لحد دلوقتى فاكرة لما كنت بطلع من البلكونة وبشوف مضادات الطيران.. كنت بخاف في البداية بعدها اتعودت شوية شوية على الأصوات"، والآن وبالرغم من أن رفعة تعيش على أرض الكنانة سالمة إلا أن قلبها لا يزال هناك.. في اليمن حينما كان سعيدًا مع أصدقائها وعائلتها.

رفعة في زيها اليمني بمعرض الكتاب

وفي الجناح أيضًا جلست لميس المقطري، فتاة يمنية تبلغ من العمر 35، كانت قبيل عام 2014 معلمة في إحدى مدارس تعز اليمنية، تحب طلابها وتحلم معهم ببكرة أفضل لهم ولبلادهم.. كانت حياتها تسير بصورة طبيعية إلى أن قالت الحرب كلمتها وغيرت كل شيء، "كانت تعز هي بداية المشكلات.. وبمجرد أن اندلعت الحرب اتقفلت كل المدارس وضاع شغلى واتوقفت الحياة"، تتذكر لميس تمامًا كأنه البارحة حينما كان القصف يحاصرهم.. فتنتقل مع عائلتها كلها سريعًا وتتجه إلى منطقة أخرى.. عند بيت شقيقها أو عمها للهرب من القصف، ولا يعودون إلى بيوتهم إلا بعد هدوء الأوضاع، وتحكى " كنا عايشين في رعب طوال الـ 24 ساعة، والكل اتأثر نفسيًا بكل اللى كان بيحصل".

اليمن.. الذي كان سعيدًا

تعيش لميس حاليًا في مصر منذ 3 سنوات، وبالرغم من استقرارها إلا أن ذاكرتها لا تزال متعلقة باليمن وأيامه السعيدة قبيل أن تهز الحرب كيانه، وتحلم بيوم تعود فيه إلى تعز.. حيث بيتها الذي كان يومًا وطنًا لها والذي تسللت إليه الشروخ من فرط قسوة القصف والنيران حتى أنه لم يكن يحميهم من أمطار الشتاء، ولكن برغم الظلمة لا يزال الأمل يراودها " ممكن الدنيا تهدأ 10 سنين.. ممكن أكثر.. بس لسه عندى أمل أروح عالبيت.. بس يا رب يكون لسه موجود".

مجسمات تحكي حضارة اليمن 

"حاسة كأني بتفرج على فيلم.. مش قادرة أستوعب أن ما يحدث في بلدي حقيقي"، كلمات قالتها فلة الفقيه، يمنية مغتربة عن بلادها منذ عام 2005، وكانت تشارك السيدة وداد مجلسها في جناح اليمن بمعرض الكتاب، تعيش فلة حاليًا في مصر ولكن عقلها لا يهدأ عن التفكير في بلادها التي رجعت خطوات عدة للوراء بسبب الحرب، "أنا أهلي لسه هناك.. وكل يوم بصحى على أخبار دمار ودماء.. كل يوم مفاجأة فزاعة جديدة تزيد الاكتئاب".

أعرضت فلة عن وسائل الإعلام، فلم تعد قادرة على تحمل المزيد من الأخبار السيئة عن بلادها التي تتمنى أن تعود إلى ما كانت عليه يومًا "يا ريت نكون اللى فيه ده هو النهاية.. وقتها هيبقى في أمل أن تكون البداية الجديدة قريبة.. لكن المشكلة إن إحنا مش عارفين النهاية فين وللأسف الأمل بيبعد شوية شوية عن الناس.. الناس تعبت ومحتاجة على الأقل 10 سنوات عشان يتعافوا من اللى عاشوه"، تقول كلماتها تلك وعيونها تهاجمها العبرات وملامحها يغزوها حزن على بلادها التي لا تدرى متى تعود إلى حالها الأول.

معالم اليمن في صور
الجريدة الرسمية