عن أيامنا الأكثر «روعة» (1)
على أرفف المكتبات قريبًا جدا سيكون هناك كتاب جديد يحمل عنوان «كلام عيال.. عن أيامنا الأكثر براءة» للكاتب الصحفي هشام أبو المكارم، من النظرة الأولى للكتاب، لغلاف الكتاب تحديدًا تبرز شخصية الكاتب، موهبة الكاتب.. وتواضعه أيضا، فلم يكتب «سيرة ذاتية»، ولم يشر إلى أنها «مذكرات».. اكتفي بإلقاء طُعم المتعة بعنوان يحمل رونقًا خاصًا، وفي زاوية صغيرة اختار وضع اسمه.
170 صفحة عدد صفحات الكتاب، وهي صفحات من تلك التي لا تُقرأ سوى في جلسة واحدة، فيلم سينمائي لا يمكن أثناء مشاهدته أن تقبل بـ«استراحة» لأكل الفشار، أو تدخين سيجارة، فالمتعة متكاملة الأركان، ولا جديد آخر يمكن أن تضفيه دقائق تقرر فيها تنحية الكتاب جانبًا.
«صندوق دنيا».. يمنحنا صاحب «كلام عيال» الفرصة للنظر إلى داخله، يحملنا إلى أيام كانت الأكثر براءةً، والأكثر روعةً، والأكثر هدوءًا، بدءا من خيط الحكى الذي يلقيه «أبو المكارم» في الصفحة الأولى، ويترك صديقه القارئ يكمل مسيرة «شد الخيط»، طامعًا في مزيد من المسافات والحكايات التي حال انتهائها سترحل من وجهك جميع علامات الاندهاش، ستغيب الضحكة الصافية، ستعود إلى أيامنا «الأكثر قهرًا».
كعادته.. لم يدع صاحب «كلام عيال» موهبة، بل ترك الأمر يمر بسلاسة وهدوء، أعطى لنفسه جرعة أمل- وهو خير من يعطي أملا- فكتب الإهداء إلى «أمي وأبي رحمهما الله.. أختي وأخي أبطال هذه الحكايات وإلى بناتي: ريم، سماح، وبسمة، الحاضر والمستقبل».
المحبة كانت حاضرة من الإهداء، وجاورتها المتعة بعدما ألقى «هشام» – مع حفظ الألقاب والمقامات- بثعبان موهبته وذكرياته على الأرض، فحكى عن أول يوم مدرسة، وكأنه هنا يحكي عنا، فلا غرابة أن تجد نفسك تزيحه قليلًا، وتضع نفسك مكانه، لا غرابة أن تستند بظهرك إلى أقرب حائط وتعود إلى اليوم الدراسي الأول في حياتك، حيث قال: «أكاد أسمع– الآن- صوت دقات قلبي يومها، لا توجد فرصة للتراجع ولا مفر من الاستمرار، دخلت من باب المدرسة، لحظتها شعرت بأن ما بداخلي ليس مجرد هواجس طفل يبدأ يومه الدراسي الأول، لكنها حقيقة واقعة، لحظتها بدأت أحدد ملامح هذا المجهول».
وفي بقية الفصل يسرد الكاتب معاناته التي استمرت طوال اليوم الأول، في طابور المدرسة، في الحصة الأولى، في أول مشاجرة يراها، ولأنه «هشام» فلم ينسَ منح الحكاية طابعًا رومانسيًا، بعدما يضعنا أمام «المصراوية» التي انتشلته من «غيابات جب الفصل» ومنحته الحماية والهدوء.. وقصة الحب الأول.
«بطة الحضانة».. حكاية أخرى يعود إليها الكاتب، ورغم سذاجته التي يعترف بها ولا يخفيها، إلا أنه دون تعمد منه، كشف لنا أسباب أزمة التعليم التي تعاني منها مصر في السنوات الأخيرة، حيث يحكي عن بدايات السبعينيات، عندما قررت الأسرة أن يذهب «هشام» إلى الحضانة، والتي يقول عنها «قررت أسرتي إلحاقي بالحضانة، وحدثت حكاية طريفة أبطالها أنا و«البطة».. من الغريب مبدئيًا أن يكون بقريتنا البعيدة في الصعيد «حضانة»، لكن لأنني من مواليد أواخر الستينيات، عندما كانت مصر تعيش على بقايا منجزات عبد الناصر، الذي كان مؤمنًا بقيمة المواطن المصري وحريصًا على تطوير حياته».
ويكمل: «من الطبيعي مثل أي طفل أن أخاف من مجرد ابتعادي عن بيتنا، فما بالك وأنا ذاهب إلى الحضانة، حيث أطفال لا أعرفهم، ومشرفة تصدر الأوامر ولها علينا الطاعة، ومن الطبيعي أيضا أن تحاول أسرتي ترغيبي في الخطوة المهمة هذه، وشرح ما تحمله من مميزات أهمها أن تؤهلني لدخول المدرسة بعد سنوات، يتخلل ذلك حديث عن الحديقة الملحقة بالحضانة وما بها من أشجار فاكهة مثمرة، أما عن الألعاب المعدة لاستخدامي، فحدث ولا حرج، بداية من الكرة ومرورًا بالمراجيح وانتهاء بالبطة التي يركبها الأطفال وتسير بهم ليتجولوا في الحديقة، لم يلفت انتباهي أي من المغريات السابقة، لكنني توقفت طويلًا عند «البطة التي يركبها الأطفال»..
ظللت أسيرًا لحلم البطة المعجزة، أتأمل البط في حظيرة منزلنا، وأقارن بينه وبين الصورة التي رسمتها في خيالي، حتى أصبحت أنتظر أول يوم لي في الحضانة بفارغ الصبر، وعندما جاء ذلك اليوم، رافقني أحدهم إلى الحضانة ومع خطواتي الأولى استدعت ذاكرتي كل حكاياتهم، رحت أفتش عن كل شيء، دخلت إلى قاعة كبيرة كان بها عدد من الأطفال بعضهم يأكل وبعضهم الآخر يلعب، تجولت بنظراتي بحثًا عنها وجدتها بالفعل، لم تكن البطة العجيبة التي حدثوني عنها، كانت تقبع بين يدي طفل يعبث بها، بطة حقيرة لا تملك من أمر نفسها شيئًا».
كارثة «البطة» هزت الطفل الصغير، فكتب بعد سنوات عنها قائلًا: «شعرت بوخز سكين في قلبي الصغير، أتمنى لو استطعت العودة- الآن- إلى هذا اليوم لكي أصف لكم بدقة تلك المشاعر الغريبة عليّ وأنا أحملق في هذه الدمية التي أحالت أيدي الأطفال لونها الأبيض إلى لون رمادي قبيح.. خدعوني إذن.. استدرجوني إلى هذا المكان بحكاية ساذجة لا أساس لها، وصدقتهم لأني تافه وعبيط، ولولا أنهم يعرفون حجم تفاهتي لما جرأوا على خداعي بهذه الطريقة، ولكن سوف أرد لهم الصفعة.. وقد كان!
الخداع لم يتوقف عند حكاية «البطة»، فصاحب الكتاب، يسحبنا بسهولة، وبصورة سينمائية كاملة، إلى ليالي شهر رمضان، وحكاية المسحراتي الذي كان يظنه «طيفًا سماويًا»، من أجل أن يستمع إلى صوته ودقات طبلته الصغيرة كان يأخذ العهود على أفراد أسرته بإيقاظه لحظة مروره في شارعهم، ليكتشف بعد أيام قليلة أن «الشيخ محمد»، مجرد رجل عادي يضحك، ويدخن ويشرب الشاي مع أبيه.
المتابعة.. الترقب.. والخيال.. مواهب عدة كان يتمتع بها الصبي الذي كان يعيش في إحدى قرى محافظة المنيا، مواهب منحته مقدرة كاملة عن نسج الحكاية، رواية الذكريات، وتحويل الكلمات والأحرف السوداء إلى مشاهد سينمائية، فها هو يحكي عن «رتيبة» تلك المرأة التي تستعين بها العائلة لـ«تقطيع الكشك»، والكشك نوع طعام يعرفه أهل الصعيد، وتحدث عنه الكاتب باستفاضة في جزء آخر داخل الكتاب، وبالعودة إلى السيدة «رتيبة»، فإن «أبو المكارم» قدم لنا شخصيةً أسطوريةً، تتقن كل الأشياء، بدءًا من إثارة الضحك، وحتى سكب الدموع، ففي ليالي «تقطيع الكشك»، تكون رتيبة هي «أنيسة الجلسة»، أما وقد رفرف جناح ملاك الموت على أحد بيوت القرية، فإن وجها أكثر حزنًا وشجنًا يظهر لـ«رتيبة» فتقود فريق «التعديد»، وتكون «مايسترو الحزن الكامل».