رئيس التحرير
عصام كامل

«بنات» فريق جامعة المنصورة يروين حكاية 21 يوما في الصحراء لاستخراج «منصوراصورس»

فيتو

في ديسمبر 2013.. كان الدكتور هشام سلام، مدير مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية، مدعوا إلى إلقاء محاضرة في جامعة الوادى الجديد، ومعه مجموعة من طلابه الذين يكونون فيما بينهم فريقا بحثيا يُشرف هو عليه.. كانت الدكتورة سارة صابر، المدرس المساعد بقسم الجيولوجيا بجامعة أسيوط، من بين أعضاء هذا الفريق الذي تكون في أواخر العقد الأول من الألفية الثالثة.. فتاة صعيدية شغوفة بعملها ولم يثنيها عنه ظرفًا أو شخصًا.. كانت دائمة التواجد في الرحلات الاستكشافية المتعددة التي اعتاد أعضاء الفريق الذهاب إليها مع الدكتور هشام للبحث عن عينات لدراستها.

في اليوم الأخير لهذه الرحلة حزم الجميع حقائبهم استعدادًا للعودة إلى القاهرة.. ولكن قبيل الرحيل.. عرض الدكتور هشام الذهاب لإلقاء نظرة سريعة مع الفريق على مكشف صخري في الواحات الخارجة.. فقد وجدها فرصة جيدة للبحث عن الحفريات.. فهو يعرف أن المكون الصخري في هذا المكان يحمل عينات فقارية لديناصورات.. ولكنها لم تكن عينات كاملة.. وذهب الجميع ولم يكن أحد يعلم أن هذه النظرة السريعة ستكون هي مفتاح اكتشاف جلل.. اكتشاف نوع جديد من الديناصورات في صحراء مصر يلقي الضوء على التاريخ الغائب في أفريقيا.



تقول الدكتورة سارة عن النظرة التي كانت بداية كل شىء " كنا خلاص مروحين.. دكتور هشام قال هندخل نشوف المكشف الصخرى اللى موجود هنا وهنمشى.. دخلنا في مدق.. كنت أنا والدكتور هشام بندور في ناحية وسناء وإيمان زمايلي في الفريق في ناحية تانية.. المشى الكتير والنظر المدقق هي أدواتنا اللى كنا معتمدين عليها.. في الأول لقينا كسرات عظمية ومن دروس دكتور هشام ده كان إشارة لعظم كبير هنلاقيه.. هو سابنى ودور في حتة تانية وأنا كملت بحث.. وبالفعل لقيت العظم الكبير.. ناديت الدكتور وزمايلي وقالنا إن بالفعل ده عظم ديناصور بس مش هنقدر نشتغل فيه لأننا كنا مروحين ومش معانا أدوات والموضوع محتاج تجهيزات.. وفعلًا مشينا".



كانت لحظة الإحباط الوحيدة التي أصابت سارة طوال رحلة اكتشاف الديناصور حينما تركوا عظامه وسافروا، وعن هذه اللحظة تحكى "كنا سايبين الديناصور ومش عارفين إيه اللى هيحصل ليه.. كنا زعلانين كأننا سايبين ضنانا"، فهذا الديناصور آكل العشب الذي يعود إلى أواخر العصر الطباشيري والذي كان يعيش في أفريقيا من 80 مليون سنة، بمثابة اكتشاف مذهل، فطوله يعادل طول "أتوبيس" مدرسة، ووزنه يعادل وزن فيل ويتميز بطول العنق، وفى تكوين جلده رقائق عظمية.



في فبراير 2014 عاود الفريق أدراجه إلى الواحات الخارجة، الدكتور هشام، والدكتورة سارة، والدكتورة سناء، والأستاذ فرحات، صديق الدكتور هشام، والدكتورة إيمان، ونصبوا الخيام عند مكان الديناصور، 21 يوما قضتهم "البنات"، المكون الأساسي لفريق عمل Mansoura University Vertebrate Paleontology ( MUVP)، في قلب الصحراء في عمل مستمر.. ثلاثة أسابيع استغرقتها عملية استخراج عظام الديناصور، وعنها تحكى الدكتورة إيمان داوود، الحاصلة على الماجستير من كلية العلوم جامعة المنصورة، وإحدى عضوات الفريق " كان يومنا بيبدأ من الفجر.. بنصحى الساعة 5 نجهز الأدوات اللى كان منها الفرش الصغيرة وأدوات الحفر والشاكوش والإزميل والفأس والمقطف اللى بننقل بيه الرسوبيات والصخور.. بعدها بنفطر ونبدأ شغل على طول"، الكل كان يعمل كوحدة واحدة.. كل له دور والأدوار جميعها تتكامل " كنا بنقسم الشغل بيننا.. حد مسئول عن توثيق الأحداث بالصور.. حد مسئول عن كتابة كل معلومة على كل عينة بنستخرجها وهكذا".


 
لم يكن العمل على العينات أمرًا هينًا، تؤكد الدكتورة إيمان وهى تشرح كيفية استخراج العينة " في البداية الفريق بيشيل الرمال من على العينة وبعدين بيعالجوا الجزء اللى بيظهر منها بمواد مخصصة للحفاظ عليها.. وبعدها بنحاول نستخرجها من الأرض بعناية وباستخدام أدوات معينة عشان نحافظ عليها لحد ما تروح المعمل لأنها من ملايين ملايين السنين وأى عنف في التعامل معاها هيؤدى لتهشمها ".



كان يتخلل هذا العمل الشاق نصف ساعة لتناول وجبة الغداء، ويمتد العمل حتى المغرب، وفى الليل باستخدام الكشافات، يحين وقت مراجعة ما تم خلال اليوم، ثم يتم عمل "كتالوج" باسم العينات التي تم استخراجها، ويتم ترقيمها وتدوين الملاحظات عليها، وإعداد خطة لليوم التالى.
وكما أن العمل شاق فإن الظروف المحيطة به لم تكن هينة أبدًا، وعنها تحكى الدكتورة إيمان "بالليل والصبح الدنيا بتكون برد جدًا.. وكنا بنواجه عواصف.. بس بالرغم من الصعوبات دى إحنا كنا حابين الشغل وكنا على طول في ضحك ومرح بيننا وده كان بيسهل الصعوبات التانية"، فالبنات جميعهن أصدقاء منذ نحو ثمانية سنوات أو أكثر، كن يهون على بعضهن البعض المشاق، وبمرحهن كانت رحلات العمل تتحول إلى " خروجة ".

 

وعن ذكريات أيام الصحراء أيضًا تحكى مي الأمير، عضو مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية، وطالبة ماجستير بكلية العلوم جامعة المنصورة، وأحد أعضاء الفريق الاكتشافى للديناصور، "كنا بننام في قلب الصحراء في خيمة.. وكنا بناكل معلبات ونادرًا ما بنطبخ.. وعمرى ما هنسى أصوات الذئاب بالليل.. بس كنا بنبقى قافلين الخيام كويس عشان مفيش حاجة تقرب وتؤذينا.. ووجودنا مع بعض أنا وأصحابى البنات اللى بتجمعنا صداقة وعشرة سنين كان بيقوينا وبيهون أي خوف".



لم تكن أصوات الذئاب هي أصعب ما واجهته الدكتورة مي خلال الرحلة، ولكن هناك موقف مرت به كان هو الأصعب والأطرف أيضًا بالنسبة لها، وهو حينما هبت عاصفة رملية كانت محملة بالأتربة والرمال أثناء أحد أيام العمل، ومن المفترض أن مهمة الفريق كانت تتركز في إزالة الرواسب والرمال من فوق العظام، فجاءت هذه العاصفة لتهدد كل الجهود التي قد بذلوها وكادت أن تكون سببًا في البدء من جديد، وعن هذا الموقف تحكى مي "كل همنا في اللحظة دي كان إننا نجرى نجيب قماش نغطي بيه العظم.. كلنا كنا بنجرى نحاول نفرد القماش وبنحاول نجيب كتل صخرية نثبته فوق العينة.. كان الموضوع صعب لأن الرياح كانت معاكسانا.. وكان الرمل مع سرعة الرياح بيوجع بشرتنا.. كنا بين نار إننا نحمي نفسنا ونحمي العينة.. وفى الوقت ده لقينا فجأة الخيام هتطير من قوة الرياح.. جرينا عشان نحاول نثبتها.. كلنا كنا بنجرى في كل اتجاه متوترين وتعبنا جدًا وقتها.. بس بعد ما الموقف خلص ضحكنا كتير".



بالرغم من انتهاء مهمتهم في الصحراء منذ سنوات، إلا أن البحث قد انتهى منذ فترة قريبة، فقد مرت سنوات بعد مهمة الصحراء في المراجعات، كما تمت مناقشات كثيرة قبيل تسليمه في صورته النهائية لمجلة معنية بعلوم البيئة والتطور، ولقد كان للنجاح الكبير الذي حققه البحث على المستوى العلمى والجماهيري صدى في نفوس البنات الثلاثة اللاتي أكدن أن للدكتور هشام، الأب الروحى لهن، الفضل الأكبر في اكتشاف "منصوراصورس شاهينا"، ولقد كان لهذا النجاح صدى على جانب آخر خاص بحياتهم الاجتماعية، فـ "سارة"، الدكتورة الصعيدية، كان هذا النجاح خير دليل على أن رهانها على شغفها بعملها كان أكثر القرارات الصائبة التي اتخذتها في حياتها.. وكان أيضًا ترجمة لإيمان أهلها وزوجها بها.. كما أنه خير دليل لفتيات الصعيد لتشجيعهن على اتباع شغفهن تحت أي ظرف، أما مي فأسرتها تشعر بالفخر حاليًا لأنها دعمت الإبنة في مسيرتها في هذا المجال بالرغم من بعض التخوف في البداية، ولقد أسعد هذا الاكتشاف أسرة إيمان التي لطالما كانت خير داعم لها بالرغم من تشكيك الجيران والأقارب في هذه المهنة وهذا المجال.


الجريدة الرسمية