25 يناير.. للثورة أماكن تحكيها (صور)
سنوات سبع مرت على اندلاع ثورة يناير كانت كفيلة بأحداثها المتعاقبة أن تُدخل ذكريات هذه الثورة في طي النسيان.. سنوات سبع مرت ولا تزال هناك كواليس غامضة لم تُكشف بعد، وحواديت وقصص لم تُحك بعد.. وفي رحلة البحث عن قصص بنكهة الثورة.. وقع الاختيار على أماكن شهدت ميلاد يناير واشتعالها.. وذروتها وانتصارها.. أماكن تحكي في صمت عما جرى وكان.. ويقص أصحابها وروادها ذكريات من سنوات ترفض الذاكرة محوها.
بداية الرحلة كانت من ميدان ألهم الثوار.. ميدان يقف في منتصفه تمثال شامخ لفريق عاش بطلًا ومات شهيدًا في سبيل وطنه.. عبد المنعم رياض.. ذلك الميدان الذي تتداعى القصص والحكايات عن الثورة إلى الذاكرة بمجرد المرور منه دون حاجة لمن يرويها.. حكايات عن هتافات منددة بالظلم، وأخرى منادية بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، عن حرق رمز الفساد المتمثل في مبنى الحزب الوطنى بالقرب منه، وقصص عن موقعة الجمل الشهيرة في أول أربعاء من فبراير 2011.
ميدان عبد المنعم رياض.. نبع لحكايات الثورة
الوصول إلى «عبد المنعم رياض» معناه أننا أصبحنا في حرم ذكريات الثورة، فمعالم «التحرير» تحيطنا من كل جانب، والميدان ذاته ليس بعيدا عن الأعين، يمينًا كان المتحف المصري ويسارًا وعلى امتداد الميدان بنايات بهية بلونها الموحد شهدت من أحداث التاريخ «راقات»، وكانت بشكل أو بآخر مشاركة في الثورة إما باعتبارها منصة للإعلاميين لرصد أجمل صور الثورة وتقديم تغطية إعلامية لها، أو مأوى وملجأ للثوار وغيرهم، أو مكانًا مناسبًا لحملة السلاح والمخربين الذين اتخذوا من الأسطح مقرًا لهم.
وفي قلب «التحرير» يقع العقار رقم 15 وعليه يطل عقار عاصر ثورة يناير وأيامها كغيره من العقارات التي تزين الميدان بطلتها الخديوية البهية، أمام باب العقار يجلس عم جمال، الحارس ذو الـ53 عاما، متأملًا المارة والسيارات في الميدان مستأنسًا ضجيجها، فأي ضجيج حالي لا يمكن أن ينافس ما كان أيام يناير التي تحفظ ذاكرته بداياتها وأيامها رغمًا عنه، بسؤاله عن «يناير» وأحداثها بدأت ذكرياته تتداعى: «25 يناير يوم مستحيل أنساه.. في بدايته جالنا تعليمات أن هيكون فيه مظاهرات وإني لازم أحافظ على مكاني.. تعليمات متعودين عليها بتخلص في طلعت حرب والناس بتروح.. بس المرة دى كانت حاجة تانية».
يحكي جمال عن هذا اليوم الذي أعد له الأمن حسابًا وهو ما دفع بعض ضباط الأمن الوطني للتأكيد على ألا يُفتح باب العقار لأي شخص وتحت أي ظروف.
جمال يجلس أمام باب العقار «15 ميدان التحرير»
بعد كلمات الضباط أدرك جمال أن الحدث جلل، وقد كان بالفعل، وبدأت أصوات الاشتباكات تتعالى أمام باب العقار الموصد، وأثارت هذه الأصوات صديقا لجمال يعمل معه بالعقار يُدعى أيمن، فلجأ إلى أحد الثقوب بباب العقار وصور ما يحدث في الميدان، لكن ظل أيمن خلف الباب الزجاجي كشفه وجذب إليه الأمن الذين حاولوا فتح الباب عنوة، مما أدى إلى كسر المقبض، وطالب الأمن جمال بفتح الباب، ففتحه مضطرًا لكن وجد ما لا يسره، فقد كان له نصيب هو وزميله في حفلة «ضرب» دفعتهما إلى البكاء والشعور بالانكسار، فتشاركا مع المتظاهرين دون قصد فيما أصابهم من ضرب في أول أيام الثورة.
أيمن بجوار مقبض باب العقار المكسور منذ أيام الثورة
بعد شرود للحظات، يستكمل جمال: «الساعة 3 الفجر حسيت الدنيا هديت وفتحت الباب لقيت طوب وشباشب وكراريس وأقلام وبهدلة، والدنيا سواد ومفيش بني آدم، وفي اليوم الثاني أتى الشباب من جديد، واستمرت المناوشات حتى الجمعة.. جمعة الغضب وعنها يحكي جمال: "كان يوم مرعب كنت جوة العمارة بتحامى فيها وبقعد بعيد عشان ماتصابش بأي رصاصة».
ووسط الاشتباكات كان العقار على موعد مع إحدى قنابل الغاز التي أخطأت طريقها وأصابت الحارس وزملاءه من العاملين بالعقار بالاختناق، ومع تزايد وتيرة الاشتباكات، سيطر الرعب على السكان ومنهم من هجر الشقق، والآخرون أغلقوها على أنفسهم تمامًا.
العقار 15.. شاهد على ثورة يناير
وقص علينا جمال كيف كانت العمارات التي تطل على الميدان جميعها وجهة للإعلاميين والصحفيين من كل مكان في العالم أثناء الثورة، حتى إن بعض حراس العمارات كونوا ثروة من هذا الأمر، فإيجار الشقق والسطح وصل إلى 2000 جنيه في الساعة وأحيانا يكون الإيجار بالدولار وأكثر العمارات استفادة من فترة الثورة في هذا الصدد كانت تلك الكائنة في بداية شارع محمد محمود والتي كان بها مقر قناة الجزيرة قبل احتراقه، لكن رغم الإغراءات إلا أن العقار رقم 15 لم يكن من المستفيدين من الثورة والمستنفعين منها، وفيما يخص المساحة من الرصيف التي عادة ما كان يؤجرها حراس العقارات في التحرير للباعة فإن جمال رفض هذه الفكرة وكان محيط العقار متاحًا لراغبي الحصول على رزق حلال ودون مقابل.
طوال أيام الثورة لم يأو العقار رقم 15 أحدًا سوى سكانه ولم يستقبل سطحه أحدا، وأكد جمال أن من كان في الميدان خلال الـ18 يوما شباب «زى الورد» كانوا ينادون بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية رغم أنهم «مش محتاجين»، لكنهم «اتبخروا» بعد التنحي، واحتل الميدان بعدهم بلطجية ومخربون.
جمال: بعد الـ 18 يوما شباب ثورة يناير «اتبخروا»
بعدما انتهى عم جمال من حكي قصته هو والعقار الذي يحرسه، اتجهنا نحو الطرف الآخر من الميدان، بالقرب من شارع محمد محمود، وجدنا بائع الكتب والصحف، عم رمضان فارس، الستيني ذا الشهرة الواسعة في بيع الصحف في مصر والذي لم يفارق فرشته طوال الـ18 يومًا من أيام الثورة، سألناه عن هذه الأيام فأكد أن ذاكرته قد محت الكثير من الذكريات، لكنه يتذكر جيدًا أنه رأى في أيام الثورة العجب، ورغم ذلك فإنه كان حريصا على أداء عمله فمكث في مكانه ليصبح فيما بعد دون قصد راويًا لبعض أحداث الثورة: «كنت قاعد في الميدان.. ضرب النار كان بيبقى نحوي وفي رصاص ياما عدى من فوق دماغي.. بس ماتنقلتش ولا يوم من مكانى»، يتذكر عم فارس الاشتباكات التي كانت قلما تهدأ: «الغاز كان بيعمينا.. كانت أيام الثورة صعبة ربنا ما يعيدها تاني وشوفنا الموت بعنينا».
فرشة عم رمضان للصحف والكتب والمجلات
ويضيف: «وأنا قاعد في المخزن كنت بشوف ناس كتير بتموت كانوا بيجيبوهم من الميدان وكنا بنغطيهم بالجرايد».. ويتذكر الأيام التي تلت الـ18 يوما: «الميدان كان بعد كده مقرا للمتسولين والبلطجية اللي معاهم سلاح وسنج والناس اللى كانت تؤجر الحتة في الميدان باليوم بـ50 جنيها».
عم رمضان فارس.. أشهر بائعي الصحف في مصر
وبعد إنهاء الحديث مع عم رمضان، اتجهنا صوب المستشفى الميداني التي حكى عنها، فوجدنا مسجد «عباد الرحمن» الذي يطل على شارع الأمير قدادار المتفرع من محمد محمود، وبسؤالنا عن حقيقة كونه مستشفى في الماضى، أكد لنا أصحاب المحال التجارية المحيطة به الأمر، وأشار «أحمد»، شاب ثلاثيني يعمل بمحل إلكترونيات وعاصر الأحداث، إلى أن سجاد المسجد النظيف كان منذ سبع سنوات مخضبا بالدماء، وسقفه كان مملوءا بمحاليل وساحته عيادات متنوعة لاستقبال المصابين.
مسجد عباد الرحمن.. مستشفى ميدانى سابقًا
بحثنا عن أحمد الطيب، إمام ومؤذن المسجد ليحكي لنا عنه، وجدناه بعد صلاة المغرب، ماكثًا في المسجد الذي يؤمه منذ 2005، في البداية كان رافضًا للحديث، لكن إصرارنا دفعه للاسترسال حاكيًا عن ثورة يناير التي اندلعت شرارتها يوم عيد الشرطة، وعن الاشتباكات التي بدأت يومها بعدما انتهى من صلاة العشاء، تذكر الكر والفر في المنطقة حتى الساعات الأولى من اليوم التالى: «الضباط قعدوا معانا للفجر ومن ساعتها ولحد ما الـ18 يوما خلصوا أنا فضلت مقيم في المسجد يادوب أروح بيتي في المعادي الصبح بصعوبة أغير وأرجع تاني».
لم تكن الأيام التالية لـ25 يناير بعيدة عنه، فاستمرت المناوشات حتى جمعة الغضب اليوم الأصعب كما يؤكد أحمد: «الوفيات والشهداء بدءوا يتساقطون من يوم 28 وكنا بننقلهم للمسجد اللي اتحول لمستشفى ميداني له 17 فرعا في شتى أنحاء الميدان».
التعليق.. سجاد المسجد النظيف هذا كان منذ سبع سنوات مخضبًا بدماء قرمزية اللون
«المسجد كان متقسما لعيادات أسنان وباطنة وعظام وجراحة.. وكان في هنا مجموعة من أحسن الدكاترة في مصر.. وكان في قسم تمريض وناس جسمهم قوي مسئولين عن نقل الشهداء والمصابين»، و«مش بس كده لأ كمان «الجزامة» كانت صيدلية متكاملة مليانة أدوية وكل خانة مكتوب عليها اسم الأدوية اللي فيها والمنبر اتحول لمكان للأدوية اللى محتاجينها في الجراحة ومكان الوضوء كان مخزنا والمحال المحيطة بالمسجد كانت مقرا لعلاج المصابين كمان».
كانت أيام الثورة كلها صعبة ولكن أكثرها حصدا للأرواح، وفقًا للحاج أحمد، كانت 20 و30 و31 يناير، مؤكدًا أن هذا المسجد خرج منه 48 شهيدا خلال الـ 18 يوما، وكانت أكثر الإصابات في الثورة من الرصاص الحي في الرأس والخرطوش إضافة إلى بضع حالات دهس، كما يؤكد الحاج أحمد، ويحكي عن الحالة التي استقبلها المستشفى ولن ينساها: «كان شاب في كلية هندسة مصابا بنحو 80 خرطوشا، وحاولنا نخرج «البلي» من الجرح دون مخدر، وطالبناه بالاستراحة، رفض يسيب أصدقاءه لوحدهم في الميدان وسط الاشتباكات فرجع لينا بعد فترة قصيرة شهيدا برصاصة في رأسه».
ورغم أن المسجد كان بمثابة مستشفى فإن هذا لم يمنع من تعرض الموجودين فيه للخطر «أنا وزملائي كنا هنموت هنا في مرة بسبب القنابل المسيلة للدموع اتحاصرنا بيها، وكان معانا الممثل خالد أبو النجا».
«جزامة» المسجد كانت «صيدلية» المستشفى
يتذكر الحاج أحمد أيام الثورة بعيون يملؤها الحنين والشجن: «الـ18 يوما دول شفت فيهم مصر الحقيقية.. المدينة الفاضلة بجد.. كنا هنا كلنا واحد.. مفيش تصنيفات ولا فئات.. كنا بنساعد بعض اللي بيكنس واللي بيعمل أكل ولو الواحد محتاج لحاجة في ثانية يلاقي غيره يجيبهاله.. التبرعات ماكانتش بتقف.. أدوية وأكل وبطاطين حتى الشرابات جابوا كراتين عشان ماكانش في وقت نغسل.. بعد الـ18 يوما كل شيء انتهى والشباب اللي زي الورد ما شوفناهمش تاني.. وبعدها ظهرت المطالب الفئوية والبلطجية والمتسولين والإخوان ركبوا الثورة بعد ما اتأكدوا أنها هتنجح».
المسجد كان المستشفى الميداني الرئيسية في الثورة وله 17 فرعًا في أرجاء الميدان
الخروج من المسجد إلى شارع محمد محمود لم يكن بالأمر العسير، وهناك بحثنا عن أي أثر للثورة فلم نجد سوى جرافيتي يحمل عنوان «المجد للمجهولين»، اتجهنا لأحد محال تصوير المستندات، تمكث فيه سيدة خمسينية فضلت عدم ذكر اسمها، وسألناها إن كانت عاصرت الثورة وأحداثها، قالت: إنها لم تنس النهب الذي تعرض له محلها والمحال المجاورة له، وكذلك قنابل الغاز التي حبست ابنتها يومًا ما في المحل، تذكر جيدا منذ أول يوم في الثورة كيف كان الأمن مكثفًا وجوده في الشارع، وكيف حاول الشباب مرارًا وتكرارًا على مدى فترات طويلة الوصول إلى وزارة الداخلية من خلال شارع محمد محمود، لكنها على لا تتمنى أن تعود هذه الأيام.
ما تبقى من جرافيتي محمد محمود
أعدنا أدراجنا لنستكمل جولتنا في حرم الثورة ومواقعها، مررنا بميدان طلعت حرب الذي لا شك أنه لم يهدأ إبان الأحداث وشهد من الاشتباكات عددًا يصعب حصره، واتجهنا منه صوب التحرير من جديد، وكان المجمع شامخًا في مكانه، وبالقرب منه مسجد عمر مكرم الذي شيُعت منه جنازات عدد من الشهداء، وكان به هو الآخر مستشفى ميدانيا لعلاج الجروح والإصابات.
ميدان طلعت حرب هادئًا في ذكرى ثورة يناير السابعة
وفى ختام جولتنا.. مررنا بكوبري قصر النيل الذي يبدو الآن هادئًا ساكنًا بعد سبع سنوات من 25 يناير، لا تزال ذكرى جمعة الغضب وتدافع المتظاهرين فوقه ساكنة في الوجدان وصورة المصلين والمياه تنهمر فوق رءوسهم لم يطوها النسيان، والاشتباكات العنيفة التي وقعت على هذا الكوبري الذي كان حينها مدخلًا وسبيلًا إلى «التحرير» لم تغب عن الأذهان، أنهينا الجولة وعلى ألسنتنا دعاء بالرحمة على «الورد اللي فتح في جناين مصر» الذين ثاروا حبًا في الوطن، لا رغبة في سلطة أو جاه.
كوبرى قصر النيل مسرح الاشتباكات في جمعة الغضب والسبيل إلى «التحرير» آنذاك