رئيس التحرير
عصام كامل

نظرية الغلط البين في مصر وفرنسا


تعد نظرية الغلط البين من المستحدثات التي ابتدعها مجلس الدولة الفرنسي ليستطيع من خلالها مد رقابته على مجال كان محرامًا عليه رقابته في وقت من الأوقات، ونحن لا ننكر أن هناك محاولات عديدة من جانب القضاء في كل من سويسرا وإنجلترا وبلجيكا في تطبيق تلك النظرية، لكن يكتسب مجلس الدولة الفرنسي فضل السبق في حسن صياغتها، وفي تعميم مجالات إعمالها، بل لقد جعل منها نظرية عامة في نطاق القانون الإداري لا تقل في أهميتها عن أهمية نظرية السلطة التقديرية ذاتها.


والغلط البين عيب يشوب تكييف الإدارة وتقديرها للوقائع: أي إنه عيب يتعلق بركن السبب في القرار الإداري. والسبب هو حالة واقعية أو قانونية بعيده عن رجل الإدارة ومستقلة عن إرادته تتم فتوحي له أنه يستطيع أن يتدخل وأن يتخذ قرارا ما، وفي ظل أحكام مجلس الدولة الفرنسي ظهرت نظرية الغلط البين، كفكرة قضائية ابتكرها وأنشأها؛ حيث يفرض من خلالها رقابته على التكييف القانوني للوقائع، وذلك لحرصه الشديد على تحقيق أكبر قدر من المشروعية في نطاق حرية الإدارة في تقييم أعمالها من جهة، وحقوق الأفراد من جهة أخرى.

فنظرية الغلط البين وجدت لتُمكن القاضي الإداري من رقابة تكييف الإدارة وتقديرها للوقائع المتعلقة بمسائل شديدة الدقة والتعقيد، ومن ثم فقد بات واضحًا أن تلك النظرية قد قامت بالحد من السلطة التقديرية لجهة الإدارة في تصرفاتها، وأضحت ميزانًا لتقدير صحة القرار ووسيلة فنية سديدة لفحص ملاءمته، بحسبانها تجابه المكنات التعسفية للسلطة التقديرية، التي يمكن أن تولد تهديدًا دائمًا للتصرف الإداري.

وعن طريق تطبيق تلك النظرية يستطيع القاضي الإداري أن يحد من حالات التكييف القانوني غير الخاضع لرقابة القضاء ومن ثم استطاعت نظرية الغلط البيّن أن تتخطى الحواجز التي كانت تحول دون امتداد رقابة التكييف القانوني للوقائع إلى بعض تصرفات الإدارة، إلا أن إدخال هذه النظرية في قضاء مجلس الدولة الفرنسي ليس بالأمر الهين، وعلى هذا النحو فقد كان يتعين عليه وهو يمارس تلك الرقابة أن يقوم بها بصورة مرنة وبطريقة يتم من خلالها الاحتفاظ للإدارة بحرية التقدير، وفي الوقت ذاته لا يتم ممارستها إلا على التعسف الظاهر والواضح في استخدام ذلك التقدير، ومن ثم فإن نظرية الغلط البيّن تنصب على تكييف الوقائع وتقديرها لا على اختيار القرار.

فقد طبقت تلك النظرية في بداية الأمر لرقابة تقدير الإدارة لتوافر الشروط القانونية للقرار الإداري، وفي مجال تمارس فيه الإدارة اختصاصًا مقيدًا مصحوبًا بهامش من تقدير لم يكن يخضع لرقابة قاضي تجاوز السلطة من قبل، وهذا مسلك مجلس الدولة في المرحلة السابقة لنشأة الغلط البيّن التي انحصرت فيها رقابة الغلط البيّن على التعادل في مجال التجميع الزراعي والتعادل في نطاق الوظائف.

ثم اتسعت رقابة مجلس الدولة الفرنسي لتمتد إلى تقدير الإدارة للشروط القانونية متى كانت تلك الشروط ذات طابع فني وعلمي.
ثم امتدت هذه الرقابة منذ عام 1968 لتشمل غالبية تصرفات الإدارة بما فيها ما تتمتع به من سلطة تقديرية بحسبان أنه لا تعارض بين حرية الإدارة في التقدير، التي تجد أساسها في القاعدة القانونية، وبين رقابة ذلك التقدير حينما يشوبه الغلط البيّن الذي يستند إلى القاعدة القضائية التي وضعها مجلس الدولة المنبثقة من دوره في إنشاء قواعد القانون الإداري.

ومن ثم فإن التعريفات التي نادى بها الفقه الفرنسي قاصرة عن تمييز الغلط البيّن عن غيره من عيوب القرار الإداري الأخرى، حيث تناولت جميعها فكرة الغلط البيّن من زاوية واحدة تقتصر على إيضاح صفة من صفات ذلك الغلط بحسبان أن الغلط البيّن يعد إحدى أدوات الفكر القضائي استحدثها مجلس الدولة الفرنسي ليواجه بها الحالات التي يمتنع عليه فيها بسط رقابته على التكييف القانوني للوقائع وتوسيع نطاق رقابته على تصرفات الإدارة.

ومن ثم بات واضحًا أن نظرية الغلط البيّن تمكنت من الظهور في قضاء مجلس الدولة الفرنسي لتصبح نظرية قضائية مهمة أفضت إلى اعتبار الغلط البيّن عيبًا من العيوب التي يمكن أن تعتري القرار الإداري، بالإضافة إلى العيوب الأخرى لهذا القرار، ونتجه إلى ما ذهب اليه البعض من تعريف الغلط البين أنه العيب الذي يشوب تكييف الإدارة وتقديرها للوقائع المتخذة كسبب للقرار الإداري، ويبدو بينًا وجسيمًا على نحو يتعارض مع الفطرة السليمة، وتتجاوز به الإدارة حدود المعقول في الحكم الذي تحمله على الوقائع، ويكون سببا لإلغاء قرارها المشوب بهذا العيب.

وهذا التعريف يسانده قضاء مجلس الدولة الفرنسي الذي استحدث فكرة الغلط البين لمواجهة حالات امتناعه عن رقابة التكييف القانوني وهي الحالات التي يتجه الفقه إلى إرجاعها إلى اعتبارين هما الملاءمة والفنية.

لكن على الجانب الآخر فإن القاضي ملتزم بدراسة الموضوع المعروض عليه في حالات الطعن على كافة أعمال الإدارة حتى الفنية منها والعلمية، فمُهمة القاضي الإداري هي رقابة العمل الإداري مهما كان تخصصه، حيث كانت بداية التطور في ذلك ما ابتدعه مجلس الدولة الفرنسي من نظرية الغلط البين في التكييف ليحد من نطاق السلطة التقديرية للإدارة في بعض المجالات.

فإذا كانت جهة الإدارة تتمتع بسلطة تقديرية واسعة وتستقل بتقدير مدى ملاءمة العمل الإداري، فيجب أن يكون تَقديرها في ذلك بريئًا من الغلط البين وغير مشوب به فتطور قضاء مجلس الدولة في كل من مصر وفرنسا فيما يتعلق بفرض رقابته على أدق أعمال الإدارة، وضع قيدًا على تصرفات تلك الأخيرة وحدًا جديدًا على سلطتها.

ويشير مجلس الدولة المصري في العديد من أحكامه إلى أن سلطة الإدارة في تقدير مثل هذه المواد مطلقة من كل قيد، أو أنها من إطلاقات الإدارة، أو أن هذه المواد من الملاءمات المتروكة للإدارة، بحيث لا يحد سلطتها فيها إلا قيد إساءة استعمال السلطة أو الانحراف بها.

الجريدة الرسمية