العالم المصري الذي قتلته «الذرة».. «علي مشرفة» أبدع في الفيزياء وأثبت أن المادة أصلها إشعاع.. طور نظرية أينشتين وسعى لتبسيط العلوم.. له مناظرة شهيرة مع طه حسين واغتيل بعد نجاح نظري
ليس الخلائق كلهم أكفاء.. لا يستوي الجهال والعلماء، لايستوي نبع ترقرق ماؤه.. يروي الأنام وصخرة صماء، لا يستوي جنات فيها كلما.. تهوى النفوس إليه والصحراء، دومًا يموت الجاهلون بجهلهم.. والعالمون بعلمهم أحياء، ومازال العالم المصري «على مصطفى مشرفة» حيًا بين كتب الفيزياء وداخل أفكار العلماء في شتى ربوع العالم، رغم وفاته منذ 68 عامًا مسومًا، بعد نبوغه في علمه وكسره لكافة النظريات التي سبقته، مصداقًا لمقولة "إنه لا مستحيل في العلم أمام المصريين".
مولده
ولد الدكتور على مشرفة في دمياط 11 يوليو 1898، ووالده هو "مصطفى عطية مشرفة" من علماء الدين وتخرج في مدرسة الإمام جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وكان والداه ميسوري الحال ولديهما وجاهة اجتماعية، وتم تربيته على البحث والشعور المرهف بالجمال وحب الخير ومصادقة الضعفاء والمساكين، وحصل على شهادة الابتدائية عام 1907، وتوفى والده في ذات العام وهو بسن الثانية عشرة عامًا، وأصبح هو رب لأسرة مكونة من أم وأربعة اخوة، وهو ما أعطاه شخصية متميزة عرف عنها التحمل والصبر وحب الكفاح.
نبوغه
نبغ «مشرفة» في علوم الرياضيات والفيزياء وهو في سن مبكرة، ونجحت نظرياته الجديدة في أن تكون نقلة له وللعلم، وأثبت أن المادة الذرية أصلها إشعاع الشمس، ومن الممكن أن يعتد بها باعتبارهما صورتين لشئ واحد يتحول أحدهما إلى الآخر، وأصبحت نظريته الخاصة بالإشعاع والسرعة من أهم النظريات، وكانت هي مفتاح الشهرة والعالمية، ومهدت نظرية العالم المصري لتتحول المواد الذرية إلى إشعاعات.
البداية
التحق عالم الفيزياء على مشرفة بمدرسة المعلمين العليا عام 1914 بناءً على رغبته على الرغم من تفوقه في البكالوريا، وتخرج عام 1917، واختير للانضمام إلى بعثة علمية في إنجلترا، والتحق فور وصوله بكلية «نوتنجهام»، ثم بكلية «الملك» بلندن، وحصل على بكالوريوس العلوم مع مرتبة الشرف عام 1923 من خلالها، وشهادة PH.D «الدكتوراه في الفلسفة»، في أقصر مدة زمنية تسمح القوانين بها، وعاد إلى مصر بأمر وزاري، وعين مدرسًا بمدرسة المعلمين العليا، ولكنه لم ييأس، وفي أول فرصة أتيحت له غادر مرة ثانية إلى إنجلترا وحصل على درجة الدكتوراه في العلوم، كأول مصري يحصل على تلك الشهادة.
وعاد مشرفة عام 1925 إلى مصر، وعين أستاذًا للرياضة التطبيقية بكلية العلوم - جامعة القاهرة، ثم مُنح بعد عام واحد من عودته درجة «أستاذ» رغم أنه لم يكمل الثلاثين عامًا، كما تم اعتماده عميدًا للكلية عام 1936، وتم انتخابه أربع مرات متتالية.
أبحاث علمية مبكرة
نشر لـ«مشرفة» وهو في سن الـ15 عامًا، خمسة أبحاث في الجامعة الملكية بلندن، وكانت حول نظرية "الكمية"، التي استحق عليها درجتي الدكتوراه في الفلسفة والعلوم، وكانت أبحاثه حول تطبيق الشروط الكمية بصورة معدلة تسمح بإيجاد تفسير لظاهرتي شتارك وزيمان، وكان أول من عمل على بحوث علمية حول إيجاد مقياس للفراغ، التي كانت تعتمد على نظرية «أينشتين» التي تأسست على التعرض فقط لحركة الجسيم المتحرك في مجال الجاذبية.
وأضيفت نظريات عديدة في تفسير الإشعاع الصادر من الشمس، إلا أن نظرية مشرفة في الإشعاع والسرعة أصبحت من أهم النظريات وأطلقت له العنان للشهرة والعالمية، وتم إثبات أن المادة إشعاع في أصلها، ويمكن اعتبارهما صورتين لشيء واحد يتحول إحداهما للآخر، ومهدت تلك النظرية العالم ليحول المواد الذرية إلى إشعاعات.
القنبلة الهيدروجينية
كان "مشرفة" أحد القلائل ممن عرفوا السر في تفتت الذرة، وحارب استخدامها في الحرب، وهو أول من اكتشف أن الهيدروجين يمكن صنع قنبلة من خلاله، ولكنه كان يتمنى ألا تصنع القنبلة الهيدروجينية، ولكن حدث ذلك وتم صناعتها بعد وفاته بسنوات قليلة بالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، ووصلت أبحاثه المتميزة في نظريات الكم والذرة والإشعاع وغيرهما إلى 15 بحثًا، و200 مسودة، وكان قريبًا للحصول على جائزة نوبل في العلوم الرياضية قبل أن يتم اغتياله عام 1950.
العلم والثقافة
آمن الدكتور على مشرفة، عالم الذرة، بأن «خير للكلية أن تخرج عالمًا واحدًا كاملًا.. من أن تخرج كثيرين أنصاف علماء»، وكان كفاحه المتواصل من أجل خلق روح علمية مختلفة ومتميزة، وكان يلقى في سلسلة محاضراته الإذاعية «أحاديث العلماء»: "هذه العقلية العلمية تعوزنا اليوم في معالجة كثير من أمورنا، وإنما تكمن الصعوبة في اكتسابها والدرج عليها.. فالعقلية العلمية تتميز بشيئين أساسيين: الخبرة المباشرة، والتفكير المنطقي الصحيح"، ولقد نادي بأفكاره هذه في كثير من مقالاته ومحاضراته في الإذاعة: مثل: كيف يحل العالم مشكلة الفقر؟ – العلم والأخلاق – العلم والمال – العلم والاقتصاد – العلم والاجتماع.. وغيرها.
تبسيط العلوم
و كان دائم المناشدة للعلماء بتبسيط المعلومة والعلم للمواطنين العاديين، حتى يدركون ما يحدث حولهم من تطور علمي ولا ينفرون من العلم والتعلم، ووجه نداء دائم للعلماء مناديًا: "ومن الأمور التي تؤخذ على العلماء أنهم لا يحسنون صناعة الكلام؛ ذلك أنهم يتوخون عادة الدقة في التعبير ويفضلون أن يبتعدوا عن طرائق البديع والبيان، إلا أن العلوم إذا فهمت على حقيقتها ليست في حاجة إلى ثوب من زخرف القول ليكسبها رونقًا؛ فالعلوم لها سحرها، وقصة العلم قصة رائعة تأخذ بمجامع القلوب؛ لأنها قصة واقعية حوادثها ليست من نسج الخيال".
وعكف على تبسيط العديد من الكتب العلمية كـ"النظرية النسبية - الذرة والقنابل - نحن والعلم - العلم والحياة"، واهتم بمجال الذرة والإشعاع، موضحًا: "إن الحكومة التي تهمل دراسة الذرة إنما تهمل الدفاع عن وطنها".
الدفاع عن ثقافتنا المصرية
وتبنى مشرفة الدفاع عن ثقافتنا المصرية والعربية، لأنها من وجهة نظره هي الثقافة الأصلية، التي لا بد أن يقف عندها العالم طويلًا، مؤكدًا على أنه لا يزدهر حاضر أمة تهمل دراسة ماضيةا، وكان دومًا يطالب بالوقوف عند نوابغ الإسلام والعرب، وأن نكون أدرى الناس بها، كما أنه أحيا الكتب القديمة لإظهارها للقارئ العربي، ومن أمثلة تلك الكتب، "الخوارزمي في الجبر، والفارابي في الطب، والحسن ابن الهيثم في الرياضة".
كما أنه اعتبر أن الأستاذية لا تقتصر على العلم فقط، وإنما يجب أن تتصل بالحياة، وأنه على الأستاذ أن يكون ذا أثر فعال لتوجيه الرأي العام خلال الأحداث الكبرى التي تصيب البلاد، وأن يحافظ على حرية رأي المواطنين، مؤمنًا بأن "العلم في خدمة الإنسان دائمًا وأن خير وسيلة لاتقاء العدو أن تكون قادرًا على رده بمثله.. فالمقدرة العلمية والفنية قد صارتا كل شيء.. ولو أن الألمان توصلوا إلى صنع القنبلة الذرية قبل الحلفاء لتغيرت نتيجة الحرب.. وهو تنوير علمي للأمة يعتمد عليه المواطن المدني والحربي معًا".
كلية العلوم للجميع
كانت لكلية العلوم في عصر الدكتور على مشرفة، شهرة عالمية، بعد أن اعتنى بقوة بالبحث العلمي وإمكاناته، ونجح في توفير الفرص لكافة الباحثين الشباب، كما أنه سمح لأول مرة بدخول الطلبة العرب الكلية، وكانت نظريته في ذلك أن: "القيود القومية والفواصل الجنسية ما هي إلا حبال الشيطان يبث بها العداوة والبغضاء بين القلوب المتآلفة"، كما أنشأ قسما للغة الإنجليزية والترجمة، وحول الدراسة بمادة الرياضة البحتة للغة العربية، وصنف قاموس مفردات الكلمات العلمية من الإنجليزية إلى العربية.
قواعد جامعية راقية
وأكد المؤرخون أن مشرفة أرسى قواعد جامعية راقية، حافظ فيها على استقلالها وأعطى للدرس حصانته، وألغى الاستثناءات بكل صورها، وكان دائم القول: "إن مبدأ تكافؤ الفرص هو المقياس الدقيق الذي يرتضيه ضميري".
كما أنه كان حريصًا على حضور المناقشات والمؤتمرات والمناظرات، وله مناظرة شهيرة مع الدكتور طه حسين حول «أيهما أنفع للمجتمع الآداب أم العلوم»، ونشر له ما يقرب من ثلاثين مقالًا أدبيًا أشهرها "سياحة في فضاء العالمين - العلم والصوفية - اللغة العربية كأداة علمية - اصطدام حضارتين - مقام الإنسان في الكون".
اغتيال مشرفة
لقي الدكتور على مشرفة حتفه في 15 يناير 1950 ميلادية، بعد أن تم دس السم له، ولم يتم معرفة الجهة المسئولة عن مقتله حتى الآن، ولكن ظلت الاتهامات موجهة لجهتين فقط، أولهما "النظام الملكي المصري"، وذلك ردًا على على تشكيله حركة شبابية حملت اسم «شباب مصر»، وضمت العشرات من المثقفين والعلماء والطلاب، وكان الهدف الرئيسي لها، "إقصاء نظام الملك فاروق"، وإعلان مصر جمهورية عربية مستقلة.
وكانت أصابع الاتهام أيضًا توجهت إلى الصهيونية العالمية، بعد أن تردد محاولة مشرفة إدخال تطبيقات علم الذرة في مصر، وهو ما حاولت إسرائيل إيقافه، ولكن لم تستطع الوصول إلى حل يثني مشرفة عن ذلك، ولم تجد إلا إغتياله حتى لا ينفذ حلمه الذي مات معه.
نعي مشرفة
بعد وفاة مشرفة، خرج ألبرت أينشتاين، ناعيًا إياه، قائلا: "لا أصدق أن مشرفة قد مات، أنه ما زال حيا بيننا من خلال أبحاثه".
وأضاف أديب عبدالله: لقد كان لظهور مواهب مشرفة في المجال العلمي أثر في كفاحنا القومي ضد النفوذ الأجنبي، فقد عجل ظهور مواهبه بتحرير الإرادة المصرية في مجال العلوم من السيطرة الأجنبية وكان الساسة في كل بلد يتعلمون من مشرفة كيف يتم تحقيق الانتصار الضخم في كل مجال من مجالات الحياة.
كما نعته الإذاعة الأمريكية وقدمته على إنه واحد من أبرز سبعة علماء في العالم ممن يعرفون أسرار الذرة.