رئيس التحرير
عصام كامل

حمادي ميكوي يكتب: حاكموا قاتل المعزة «نانسي»

حمادي ميكوي
حمادي ميكوي

مَن مِنَّا لا يحتفظ بكثير من ذكريات الطفولة، ومَن مِنَّا لا يدرك بعض الحقائق التي كانت غائبة عنه أو جهل تفسيرها عندما كان طفلًا، عندما كنت في عامي العاشر وقبل أربعة أيام من عيد الأضحى المبارك، اصطحبني والدي معه إلى عمله، وبعد انتهائه من عمله ذهب إلى بائع للمواشي ليحدثه عن الصفقة التي عزموا على إتمامها سويا في الساعات القليلة المتبقية من اليوم، وبالفعل أخرج أبي «رزمة» من الفلوس، وأخذ صاحب الجلباب الأسود يعد النقود.


وقتها حدثني أبي بضرورة الانصراف عن هذا المكان حتى يذهب سريعًا ليحضر «تاكسي» ويضع بداخلة «نانسي»، وعندما ذهب أبي استغل هذا الرجل غيابه وصِغَرَ سِنّي وأوقع بـ«نانسي» على الأرض في غفلة منها، وأخذ يقيدها، وقتها لم أجرؤ أن أتحدث إليه حتى ولو من باب السؤال لماذا تفعل هذا؟ لماذا تقيدها؟ وبمجرد الانتهاء من تكبيلها ذهب، واستمر في مباشرة عمل ما لم أتابعه، بل استغرقت في تخيل نفسي لو كان الله خلقني كما خلق «نانسي»، هل كنت سأتحمل هذا العنفوان؟ لماذا لم يخلقها الله تتحدث وتسمع وتفهم الجميع والجميع يفهمها، وتشكو مما يؤذيها؟

كل هذا وأنا أنظر إلى «نانسي» التي لم تُعرْنِي أيَّ اهتمام لانشغالها في فك القيد، ثم جاء أبي بالتاكسي، ونادي على صاحب الجلباب الأسود ليحمل صديقتي الجديدة إلى «شنطة» التاكسي، وذهبت معنا «نانسي» إلى البيت، لم أَنَمْ في هذه الليلة من شدة الفرح والترقب، أتابعها وأجدد لها الأكل والماء باستمرار، أضع يدي على رأسها، أحدثها: أنا «أحمد» وأنتِ «نانسي»، أعرف أنك لا تتحدثين، ولكن أعرف أيضًا أنك تسمعين، أتدريين لماذا سميتك «نانسي»؟ لأن صديقة فصلي الوحيدة والتي أستيقظ كل يوم من صباحي مهرولًا إلى المدرسة من أجلها اسمها «نانسي»، أعلم أن الحب حرام وعيب شديد، هكذا حدثتني أختي، لكنّي أريد أن أرى «نانسي» كل يوم، حتى وإن لم نتحدث، لخجلي الشديد وخوفي من أن تخبر المدرس فيقوم باستدعاء ولي أمري، لذلك ألتزم الصمت والمراقبة من بعيد، فجأة نادت أمي عليَّ: أحمد فينك؟ فأجبت: أنا موجود هنا في البلكونة بلعب مع المعزة. فقالت لي: طيب يا حبيبي تعالى بسرعة علشان الفطار جاهز.

وقتها ودعت نانسي قليلًا وذهبت، لا أستطيع أن أنكر أن تلك الأربعة أو الخمسة أيام كانت من أسعد أيام طفولتي؛ لأني حدثت روحًا لا تغضب ولا تملُّ من كثرة الحديث، لا تفشي سرًّا، تشعر بما يجب أن يشعر به الكائن الحي من حنان وطيبة، حالها حال كل الحيوانات.

مرت أيام كنت لا أتمنى أن تمر، فوسط فرحتي كباقي الأطفال بصلاة العيد سيطرت عليَّ الحسرة، وذلك بسبب ما حدثني به أبي قبل ليلة العيد حيث قال: «صل العيد وخليك جنبي متروحش هنا ولا هنا.. عشان الجزار اللي هيدبح المعزة جاي بعد صلاة العيد على طول»، انتهت بالفعل صلاة العيد التي كنت لا أتمنى أن تأتي من الأساس، أحضرت المعزة مع والدي وأختي، انتظرنا أمام المنزل حتى قدم علينا رجل ومعاونه، تكرر مشهد العنف مجددا، طرحوا «نانسي» أرضًا، ومع قوله: «الله أكبر».. قتلت «نانسي».

وظلت تصارع الموت أمامي، بكيت كثيرا، ونظرت إلى وجه أبي الباسم فازداد حزني، أختي الحمقاء تلطخ يدها بدماء صديقتي الوحيدة، «حيطان» عمارتنا عليها آثار الجريمة، ركضت سريعًا إلى ملعب الكرة الكائن بجوار المنزل، انهرت في البكاء، ثم حدَّثْتُ نفسي بصوت عالٍ ونبرة يخنقها البكاء: «إن كنتَ مُخْلِصًا حقا عليك ألا تتنازل عن حق صديقتك الوحيدة».

قد يبدو لحضراتكم أنها مجرد ذكريات طفولية ساذجة في مرحلة عمرية لا تدرك حقيقة هذا الفعل النابع من عقيدة دينية لا يمكن التقليل منها، ولكن ما أرفضه كل الرفض هو استباحة ذبح الحيوانات أمام المشاع باختلاف أعمارهم ونوعهم، فهذا قد يؤصل في ذهن ونفوس هؤلاء الأطفال أن الدم مشهد لا بد أن يكون جزءًا من حياتهم يجب أن يقبلوا عليه دون خوف أو تردد.

فلترقدي في سلام يا حبيبتي «نانسي»..
الجريدة الرسمية