الزيارة المجهولة.. السادات زار القدس في 1955 بتكليف من عبد الناصر لعقد مؤتمر إسلامي.. القاهرة تبرعت بـ75 ألف جنيه لترميم الأقصى.. وتقارير تؤكد: هدف الزيارة تضييق الخناق على الإخوان
هل أتاك – عزيزى القارئ - حديث زيارة الرئيس الراحل “محمد أنور السادات” مدينة “القدس”، قبل أن يكون رئيسًا؟ عفوًا.. لا أقصد الزيارة التي تمت في العام 1977، وجلبت عليه أمواجًا متلاطمة من الغضب والجدل وسوء الظن، وخصمت – من وجهة نظر البعض – من رصيده العظيم، باعتباره كان رجل الحرب والسلام، ولكن أقصد الزيارة التي جرت قبل التاريخ المذكور بـ22 عامًا، يومئذٍ.. لم يكن “السادات” رئيسًا، بل كان من أبرز رجال الرئيس الراحل “جمال عبد الناصر”.
أزعم أن إجابتك ستكون: “لا أعلم عن تلك الزيارة شيئًا”، وعلى أية حال.. لا تنزعج، ولا تستشعر حرجًا، فلست وحدك من يجهل هذه الزيارة التي اكتشفنا أنها “مجهولة” أيضًا لأساطين التاريخ والتأريخ وكبار المثقفين الذين عاصروا تلك الفترة، وهذا أمر عُجاب، ليس في ذلك جدال.
لن أشغلك بمقدمات طويلة ونمطية تقتضيها مثل هذه النوعية من الموضوعات، ولكن دعنا ندخل في صُلب الموضوع مباشرة، ونؤكد لك أن هناك شواهد وقرائن عدة على تلك الزيارة الغامضة.
والغموض لا يأتى من كُنه الزيارة، فالقدس يومئذ لم تكن مُحتلة، وزيارتها لا تثير جدلًا، ولكن الغموض يأتى من عدم الاهتمام بها أو تسجيلها ضمن حوادث ووقائع أقل أهمية لم تغبْ عن صفحات المراجع التاريخية، وعقول المؤرخين وحاملى أختام التاريخ.
المُدهش في الأمر.. أن الرئيس السادات لم يذكر حرفًا واحدًا عن تلك الزيارة في كتابه الأشهر: “البحث عن الذات”، وإن اختلفت الحال في النسخة الإنجليزية، كما سيتبين لاحقًا.
عند “كريمر”.. الخبرُ اليقينُ
سألنا أكثر من 100 مؤرخ ومثقف وباحث، بلا أدنى مبالغة، عن تلك الزيارة المجهولة، وجميعهم أنكروا علمهم بها من قريب أو من بعيد، ولكننا وجدنا إيضاحات وإضاءات في بحثٍ مطولٍ أعده أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في «كلية شاليم» الإسرائيلية “مارتن كريمر”.
البحث المريب جاء ضمن كتاب حمل عنوان «حول القومية والهوية والسياسة.. إسرائيل والشرق الأوسط»، وصدر عن مركز “موشى ديان” للدراسات الشرق أوسطية والأفريقية في تل أبيب خلال العام 2014.
وبحسب “كريمر”، فإن زيارة السادات للقدس عام 1955، التي تزامنت مع تشييد “الكنيست الإسرائيلى”، جاءت بتكليف من سلفه الرئيس الراحل “جمال عبد الناصر”، بهدف عقد مؤتمر إسلامى للشعوب الإسلامية.
ونوه بأن الزيارة جاءت ضمن جولة عربية، شملت: المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية والكويت وسوريا ولبنان والعراق، وخلال الزيارة.. أعلن “السادات” عن تبرع القاهرة بـ75 ألف جنيه لتجديد وترميم المسجد الأقصى.
الباحث.. لم يكتفِ بهذه المعلومات، وإنما أرفق بها مجموعة من الصور، من بينها صورة أوردها السادات نفسه في النسخة الإنجليزية لكتابه “البحث عن الذات”، الذي يحكى سيرته الذاتية، وفى هذه الصورة يظهر السادات، الذي كان عمره حينئذ 37 عامًا، مرتديًا لباسًا مدنياُ، وواقفًا مع مجموعة من الوجهاء على خلفية مسجد “قبة الصخرة”.
وبحسب المعلومات المتاحة فإن “السادات” كان أمينًا عامًا لمنظمة المؤتمر الإسلامى العام التي كانت تتخذ من العاصمة المصرية مقرًا لها. الهدف المُعلن للزيارة كان حشد التأييد العربى لفكرة عقد مؤتمر إسلامى للحكومات والشعوب، تحت رعاية منظمة المؤتمر الإسلامى العام.
وبحسب “كريمر” فإن السادات وصل إلى القدس في موكب سيارات، قادمًا من العاصمة الأردنية التي التقى فيها رئيس الهيئة العلمية الإسلامية الشيخ “عبد الله غوشة”، وقاضى قضاة الأردن الشيخ “محمد أمين الشنقيطى”، وفى القدس.. استقبله محافظةا وعدد من الأعيان ومفتيها الشيخ “سعد الدين العلمى”.
المعلومات المتاحة في التقرير الإسرائيلى وتقارير عبرية وإنجليزية أخرى، روت أن “السادات” حرص على أداء الصلاة في المسجد الأقصى، وفى مسجد قبة الصخرة، واستمع للشروح والمعلومات التي تناولت تاريخ المسجدين، وتلقى بعض المواد المنشورة عنهما، ونوهت إلى أن “السادات” أصدر في وقت لاحق على الزيارة بيانًا، أعلن فيه أن مصر تعهدت بدفع 75 ألف جنيه لتجديدات المسجد الأقصى، ومثلها لإنشاء مكتب دائم لصيانة المسجد والضريح.
كما تعهد بأن تدعم منظمة “المؤتمر الإسلامى العام” جهود التربية الإسلامية في المدينة، من خلال توفير الكتب المدرسية والمعلمين، والمساهمة في إنشاء المزيد من المدارس، وكذلك إنشاء مركز ثقافى إسلامى ضخم، بتمويل مصري، ليكون ندًَّا للمراكز الثقافية الغربية، بهدف جذب الطلاب من باكستان وإندونيسيا وماليزيا، وكانت المنظمة قد خصصت بالفعل 25 ألف جنيه مصرى لإنشاء المركز.
ووفقًا للمعلومات المتاحة.. فإنه كان من المقرر إنشاء المركز فوق مقبرة اليهود في جبل الزيتون المُطل على مسجد قبة الصخرة، وهذا المكان كان وقفًا تابعًا لسلطة الأوقاف الإسلامية، وكان السادات يطمح في أن يعكس المركز «المحتمل» ما وصفه بـ«عظمة العرب والإسلام».
وبحسب التقارير.. فإن السادات ارتد مجددًا من القدس إلى العاصمة الأردنية، وأعلن منها أنه سيكون هناك رد مناسب على الاستفزازات الإسرائيلية من خلال تعزيز ودعم قوة الجيوش العربية، ردًا على تصعيد من الجانب الإسرائيلى في هذه الفترة، وكأن التاريخ يعيد نفسه، وحقيقة الأمر، فإن تاريخ الصراع العربى – الإسرائيلى متكرر الفصول والأحداث وردود الفعل.
“كريمر” ومن انشغلوا بالبحث والتنقيب عن أسرار الزيارة المجهولة.. يجمعون على أن أهدافها لم تقتصر على ما تم إعلانه في البيانات الرسمية بشأن تعظيم مكانة منظمة المؤتمر الإسلامى العام، وما تم سرده فيما تقدم، ولكن كانت هناك أهداف أخرى، أبرزها: مواجهة تمدد نفوذ “حلف بغداد”، في ظل انضمام باكستان له، ورغبة الأردن في الانضمام إليه، وثانيها وهو الأخطر بلا شك ويتجسد في إطار سعى النظام المصرى حينئذ لتحجيم نفوذ جماعة الإخوان، بعد احتدام الصراع بينهما، وانتقاله إلى ساحات إقليمية، وبالتحديد الأردن والقدس، وكأن التاريخ يعيد نفسه أيضًا بشأن مخاطر جماعة الإخوان على الأمن القومى المصرى منذ أبصرت النور قبل أكثر من 80 عامًا.
تقول التقارير: "في ديسمبر العام 1953، كانت جماعة الإخوان سبقت السادات إلى “القدس”، من خلال عقد مؤتمر إسلامى عالمى هناك، جمع العديد من نشطاء الجماعة في مصر وسوريا، وكذلك الحركات الإسلامية القريبة لهم في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وسعت الجماعة من خلال هذا المؤتمر إلى وضع نفسها في طليعة ما تسميه «النضال المستمر ضد الاحتلال الإسرائيلي»، وتحويل القدس إلى مركز دولى للجماعة".
وشهد المؤتمر مشاركة كل من: المنظر الأيديولوجى للإخوان سيد قطب، ومرشد الجماعة في سوريا “مصطفى السباعي”، ورئيس حزب الاستقلال المغربى “علال الفاسي”، ورئيس الفيدرالية الإيرانية الإسلامية السيدة “نافاب صفوى”.
ووفقًا لـ “كريمر” ورفاقه.. فإن نظام “عبد الناصر” كان يهدف من وراء زيارة “السادات”، لكل من: “الأردن” و”القدس”، إلى تضييق الخناق على الجماعة في هذين المركزين، وإضعاف شوكتها وتجفيف منابع شرورها.
لماذا ينكر الناصريون الزيارة؟
“فيتو” تواصلت مع شخصيات ناصرية كبيرة للاستفسار عن طبيعة هذه الزيارة، ولماذا تم إسقاطها من المصادر التاريخية المصرية، غير أن الإجابة جاءت إما نفيًا قاطعًا، أو جهلًا قاطعًا، غير أن اللافت في الأمر أن الذين ينفون أو يجهلون أو يتجاهلون عاصروا زمن الرئيس عبد الناصر، وكانوا مقربين بشكل أو بآخر منه ومن أركان نظامه ومن دوائر صُنع القرار، ومن ثمَّ فإن النفى أو الجهل أو التجاهل أمور غير منطقية، ولكن الأرجح أن الناصريين لا يريدون ارتباطًا وثيقًا بين زيارة القدس، وبين “اسم زعيمهم المفدى”، لا سيما أن هؤلاء الناصريين هم الذين أدخلوا “ذواتهم المتضخمة” في خصومة غير متكافئة مع الرئيس السادات على خلفية زيارته الأشهر للقدس في العام 1977، والتي مهدت، كما يعرف القاصى والدانى، لإبرام اتفاقية السلام.
ويعتقد الناصريون أنه لا يجب أن تكون هناك أدنى علاقة بين اسم “ناصر” وأى زيارة للقدس، رغم أن المدينة المقدسة لم تكن في قبضة الاحتلال!!.
ورغم أن الدكتورة “هدى عبد الناصر”، ابنة الزعيم الراحل والأستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، تقحم نفسها في العديد من القضايا ذات الصلة بوالدها أو بقضايا الشأن العام، إلا أنها عندما تواصلنا معها تهربت تارة وامتنعت تارة أخرى عن التعليق على هذه الزيارة، وهو ما يرجح الاحتمال سالف الذكر.
بين تاريخين
قبل 99 عامًا بالتمام والكمال.. أبصر الرئيس الراحل “محمد أنور السادات” النور، وصاغ له القدر سيرة ملحمية نادرة، وقبل 40 عامًا بالتمام والكمال.. فاجأ الرئيس المظفر المنتصر على الجيش الإسرائيلى في حرب أكتوبر 1973، بالذهاب إلى إسرائيل في العام 1977.. “إننى على استعداد أن أذهب إلى آخر الأرض، إذا كان ذلك سيمنع إراقة دم جندى واحد من أبنائي.. أنا مستعد أن أذهب إلى آخر الأرض، وسوف تندهش إسرائيل حين تسمعنى أقول: إننى مستعد أن أذهب إلى الكنيست كى أناقشهم”.. هكذا تحدث الزعيم المنتصر في مجلس الشعب، ونفذ ما فعل، وسافر إلى إسرائيل، ثم أبرم معهم اتفاقية “كامب ديفيد”.
ربما جلب السادات على نفسه وحتى الآن غضبًا متراكمًا، وأثار جدلًا لم يتوقف صداه على مدى 4 عقود، ولا يزال الناصريون هم الفريق الأكثر صخبا في هذا الشأن، ويستغلون هذه المناسبة للنيل من رجل الحرب والسلام، الذي ثبتت الأيام والاحداث صواب ما فعل ولكن هذا الصخب قد تتراجع حدته كثيرًا، بعد الكشف عن تلك الزيارة المجهولة التي تمت بتكليف من الرئيس عبد الناصر نفسه.
"نقلا عن العدد الورقي.."