كلام جرايد في «كلام جرايد»!
في برنامجه الناجح جدًا "كلام جرايد" على شاشة "العاصمة" قال الأخ العزيز أستاذنا الكاتب الصحفي المحترم مجدي طنطاوي أنه لا تشابه بين جمال عبد الناصر والسيسي وأن الرئيس السيسي يدير الأمور بشكل هادئ جدًا بعيدًا عن العنتريات!
طنطاوي -الذي نستأذنه من أجل مصر وتاريخها في الاختلاف معه مع الثقة في نياته تمامًا- قال إنه يحب عبد الناصر ويقدره ووصفه بالمخلص لوطنه، لكن فكرة التشابه غير واردة ثم أذاع لعبد الناصر جزء من خطابه الشهير عن المعونة الأمريكية! وبالطبع من حق أستاذنا العزيز أن يقول ويرى ويقرر ما يشاء رغم أن من يقولون بالتشابه لا يرونه في الشكل ولا في الطريقة على الإطلاق إنما في المضمون والجوهر.. فالأول -مثلا- امتلك الإرادة السياسية والثاني يمتلكها وأن الأول بنى للوطن الكثير في نهضة صناعية شاملة في الخمسينيات والستينيات لن يستوعب المقال ذكرها ظلوا يبيعون فيها ثلاثين عامًا ولم ينتهوا منها.. والثاني يسير في طريق مماثل.. كما أن الأول خاض معركة مع الإخوان، وكذلك الثاني وعبد الناصر تعامل بندية شديدة مع أمريكا وكذلك السيسي رغم أنه يمتلك إرثًا لا ذنب له فيه من العلاقات الخاصة مع أمريكا وتشابك مصالح لا حدود له، وفي ظل القطب الأوحد في العالم -رسميًا حتى الآن- وليس في نظام القطبية الثنائية كما كان في الستينيات!
لكن ما نريد أن نتوقف عنده -ويجب أن نتوقف عنده نظرًا لجماهيرية البرنامج وتأثيره وأيضًا لاحترام صاحبه للاختلاف وللحقيقة، كما أن المعركة من أجل الوعي هو في القلب منها- هو ما قاله طنطاوي من أن عبد الناصر تسلم البلد بشكل جيد!! بخلاف الحال الذي تسلم السيسي مصر عليه!!
وهنا نقول إن الحقيقة تقول إن الرئيس السيسي تسلم مصر في حالة صعبة للغاية وأعباء متراكمة لا حدود لها لكن المؤكد أن حال مصر عام 52 أسوأ بكثير.. لكن استطاعت الدعاية الإخوانية ضد يوليو انتقامًا منها ومن رجالها- أبناء الجيش العظيم- خلال أكثر من خمسة وأربعين عامًا أن تتسبب في ترسيخ أفكار غير صحيحة ورغم ذلك تتبناها فضائيات الآن وعلنًا دون احترام دور الجيش المصري في الثورة ولا حتى إلزامًا بالحقيقة.. وبالطبع مصر الكبيرة ليست هي إلا ربع شوارع في قلب القاهرة والإسكندرية التي كانت بها مظاهر الحياة الصاخبة والتمدن والتي كانت مخصصة للأمراء والأميرات ثم الأجانب وصفوة المجتمع ولا علاقة للشعب المصري الحقيقي -الحقيقي- بها وهو الذي كانت تأكله البلهارسيا وطاردته الكوليرا وطارده الطاعون وأذله الحفاء حتى بات الانتهاء منه مشروعًا قوميًا!
وفي كتابه الرائع "الاقتصاد المصري بين التبعية والاستقلال" يورد الدكتور أحمد الشربيني أرقامًا مفزعة عن أحوال المصريين ولأن الرقم حقيقة كما يقولون فسنكتفي بأرقام سريعة من كتاب مهم يعج بالأرقام، فمثلا يذكر أن نسبة كبار ملاك الأراضي سنة 1952 قبل الثورة كانت 4.% يمتلكون وحدهم 34.2 من جملة أراضي مصر! بينما 5.3 من متوسطي الملاك يمتلكون 30.3% من المساحة بينما 94.3 من السكان يمتلكون الباقي!!!
وهو ما أدى إلى أن 92% من السكان في الريف تحت خط الفقر منهم 70% معدمون! كان الاقتصاد المصري قبل ثورة 23 يـوليو متخلفـًــا وتابعًا للاحتـكارات الرأسمالية الأجنبية، يسيطر عليه بضع عشرات، أو مئات على أقصى تقدير، وكانت نسبة البطالة بين الـمصريين 46% بينما يقول الدكتور رءوف عباس، المؤرخ الكبير الراحل في دراسته "الحركة الوطنية في مصر 1918 إلى 1952" إنه:
"بالنظر في كيفية توزيع الدخل القومى لوجدنا 61% من هذا الدخل يذهــب إلى الرأسماليين وكبار الملاك.. فقـد قُـدِّر الدخل القومى عام 1954 بمبلغ 502 مليون جنيه ذهب منه ما يزيد على 308 ملايين جنيه على شكل إيجارات وأرباح وفوائد، بينما نجد متوسط أجر العامل الزراعى في العام لا يزيد على 14 جنيهًا وفق إحصاءات 1950.. وإذا أخذنا في الاعتبار ارتفاع تكاليف المعيشة، لكان الأجر الحقيقى للعامل الزراعى لا يتجاوز ثلاثة جنيهات في العام"!
هذا الموضوع أرقامه مذهلة كلها تفضح مزاعم الإخوان التي تلقفها منهم الكثيرون وروجوها منهم أحزاب معروفة مع مدعي العلم بالتاريخ.. وكلها تحتاج إلى إعادة كتابتها من جديد حتى يعرف الناس تاريخ بلادهم وأن الشعب المصري الحقيقي.. الحقيقي.. كان على هامش الحياة قبل الثورة وأصبح بعدها مالكًا للأرض والمصنع ولقراره السياسي لا يحكمه قصر ولا تتحكم به سفارة!
أخيرًا نقول.. نعم كانت القاهرة نظيفة وهادئة في الأربعينيات لكنها أيضًا ظلت كذلك في الخمسينيات والستينيات والسينما سجلت للزمن كل شيء.. الفرق أنها أصبحت للشعب كله وليس لفئة أو لطبقة.. أما كيف ترك كل من رؤساء مصر السابقين مصر برغم كل ما يقال فله وبالأرقام -بالأرقام- مقال آخر.. سيكون مذهلا وصادمًا للكثيرين!