طوبى لصانعي السلام
في مطلع السنة الجديدة ٢٠١٨، وفي اليوم الأول من يناير يحتفل العالم بأجمعه بيوم السلام العالمي.. ترى ما الذي يحدو بالعالم لاتخاذ هذا الموقف.. ولإعلان يوم رأس السنة عيدًا عالميًا للسلام؟
الجواب في الأمر واضح، وهو أننا مدعوون في هذا اليوم المبارك إلى أن نُسبح الله من أجل عطاياه، ومن أجمل هذه العطايا، نعمة الحياة التي هي عربون حُبه لخليقته وجبلة يديه.. فنرى أنفسنا في هذه المناسبة متساوين أمام عظمة الله ومحبتهِ، ونقر باخوًتنا، متضامنين بالشكر لرب النعم والخيرات، وبالحفاظ على ما أغدقه علينا من وافر عطاياه ونعمه وخيراته، فنعيش العيد، ويعم الفرح، ونذوق من جديد طعم المحبة والسلام.
وفي مثل هذا اليوم، كما تعلمون، تقوم الشركات والمؤسسات على أنواعها بعمل برنامج لتدقيق حساباتها ربحًا كان أو خسارة.. وفي نيتها كشف أوضاعها، إن كانت سليمة لتزيد من ربحها، أو مختلة ليبحثوا عن سبب الخسارة فيفكرون إلى تصحيح مسارها وأوضاعها.. وهذا أيضًا ما يقوم به النساك والرهبان والمؤمنون بالإجمال الملتزمون بدينهم فيعقدون الخلوات الروحية للنظر أمام الله والضمير إلى ما يجب عمله إنصياعًا لمشيئة الله.. وما يجب التخلي عنه.. فلا تنهش الخطيئة والأنانية والكبرياء حياتنا، ونُجرَ، لا سمح الله، هبوطًا من الحياة إلى الموت بدلًا من أن نتقدم صعودًا إلى الحياة.
وفي تقليد فحص الضمير هذا، وإجراء كشف الحسابات على أنواعها رأت الكنيسة، الأم والمعلمة، أن يتحول عيد رأس السنة إلى عيد للسلام في العالم، أي إلى عيد نحاسب فيه أنفسنا فنبتعد عن الحروب والشرور، وعن كل ما يهدد الحياة ويقتلها، ونسير نحو السلام وبنائه في محيطنا ومجتمعنا ومنطقتنا والعالم.
الحرب ليست مهنتي، يقول الله عند الفينيقيين، ولا عجب في هذا القول فإن "الله محبة" ومن يعطي الحياة هبةً مجانية لبني البشر لا يريد لهم أن يرهقوها في سفك الدماء في الحروب بعضهم ضد بعض، وفي التعديات القاتلة بكل أشكالها.. لذلك يجب اعتبار الحروب وأعمال الإرهاب على أنواعها آفات إنسانية كبرى، والبحث في أسبابها ومسبباتها وصولا إلى تلافيها وإلى نزعها من قاموس الحضارة وتاريخ الشعوب.. ومن المعروف أن الحروب تأتي على نوعين:
واحدٌ منها يرتبط بالحاجة المادية والتنازع عليها، فهي على سبيل المثال حروب الماء والغذاء والنفط والغاز والإمدادات الحيوية لشعب أو لجماعة.
أما النوع الآخر فيتعلق بصراع العقائد والأفكار، وهي تُشن باسم الأديان والأديان منها براء أو باسم العقائد حينًا، وهي بالنهاية محاولة للسيطرةِ والنفوذ وتهميش الآخر.
وما يتعلق بحروب الحاجة فإن خيرات الأرض، هي لجميع أبناء الأرض والوطن الواحد ليبقوا إخوة وأبناء لأب واحد خلقهم على صورته ومثاله.. إذًا، بدلًا من الحروب فيما بينهم، على الناس أن يتضامنوا من أجل الحياة فيسيروا في مركب السلام فيصلوا معًا إلى غاياته المنشودة.
أما عن حروب العقائد، فالإيمان الصحيح يعَلم أنها مرفوضة من الله قبل الناس.. فالدين لا يأمر بالقتل، ولو ظهرت في التاريخ حروب دفاعية.. والله يأمر بالحب والصفح والمسامحة والمصالحة ويدعونا إلى أن نعامل بعضنا بعضا بالحسنى، وليس بالكراهية ولا بروح الاستكبار والاستئثار.
في رأس السنة تُرفض الحروب على أنواعها، ونقول: "لا للحرب" ونسأل الله أن يبعد عنا شرور النزاعات، وأن ينجينا منها، وأن نسعى في أثر السلام والمصالحة فنزداد إيمانًا بالحوار والتفاهم وبحل المشكلات بغير وسائل العنف، وتغليب حب الحياة على نزعة الموت فلا يجحد أحد بنعمة ربه ولا يتنكر لها.
في رأس السنة نجري الحسابات ونسأل عما نصنعه لوطننا، خيرًا كان أم شرًا، أفليس علينا واجب ضميري لإقامة السلام ونبذ العنف القاتل فيما بيننا ونحن إخوة نعيش في بيت واحد ونأوي تحت سماء واحدة؟
هذا اليوم هو بمثابة دعوة لنا ونحن نتمناها فسحة أمل للتفكير في أمورنا ولبحث هادئ ومحب يقوم بين المواطنين لترتيب شئون وطنهم بروح لا يمكن أن تكون إلا إيجابية.. وفي المناسبة تلفت إلى كون كل منا شريكًا أساسيًا في تكوين هذا الوطن.. فنصارح بعضنا ضمن الثقة والمودة والاحترام المتبادل كشرط أساسي وجوهري من شروط النجاح في هذا المسعى، وفي إنقاذ وطننا المشترك من الضياع. ولا نتكلم مع بعضنا كمسلمين ومسيحيين وكأننا أصبحنا موضوع جدال أحدنا تجاه الآخر، بل كمواطنين لوطن واحد لهم نفس الحقوق ونفس الواجبات تجاه وطن صار فوقنا جميعًا.. وصار يعبر عن ذاتنا الكبرى وكياننا الجامع.. كما صار مع التاريخ قدرنا وفخرنا وموضوع حسابنا أمام الله وأمام المستقبل.. سنة جديدة تحمل إليكم المصالحة الحقيقية والتوافق.
"إن أوطاننا عزيزة علينا جَميعًا وقد كلفتنا مئات السنين لتكوينها وبنائها وقد أعاننا الله في ذلك.. ألا عززوا أوطانكم أيها الإخوة، وصونوا الشراكة فيها لأنها شرط ثبات الوطن واستمراره في الرسالة التي يحملها أمام العالم ومن أجلها.. إنكم جَميعًا وطنيون أصفياء، فخذوا الوقت لتستمعوا لبعضكم إلى بعض بالمودة والقصد الحسن.. وإنكم لتجدون في الآخر -كل ما يثبت في الغد- هناء الماضي والمجال المفتوح لجعل بلادنا وأوطاننا مصدر اعتزاز دائم لكم، ومحط أنظار وانتظار لإخواتكم وأصدقائكم في العالم أجمع".
وعلى هذا الرجاء نتمنى لكم يا أبناء وطني، سنةً جديدةً تحمل إليكم المصالحة الحقيقية والتوافق الكامل في كل أمر يعيد لكم بهاء وطنكم ومجده.
وليعيد الله عليكم هذه السنة الجديدة وهذا العيد، عيد السلام، بالمحبة والوئام ساكبًا عليكم فيضًا سخيًا من نعمه وبركاته، وكل عام وأنتم بخير.