رئيس التحرير
عصام كامل

إيما خليل تكتب: مذكرات على سرائر النخبة

فيتو

في البداية كانت مدينتي..
ثم شارعي.. ثم بيتي..
ثم غرفتي.. ثم مقعدي الوثير..
وحتى هناك.. أنا دائمًا في اتزان هش فوق رقعة صغيرة تضيق عليّ شبرًا كل يوم..

أنظر كل صباح من النافذة وأجد كل شيء كالبارحة.. هي مساحة النور تتقلص..
وانقطع الوحي عني وقاطعني.. وترك مكانة هوة سحيقة بلا آخر..
وتأسس الندم بعناية ولم يترك من القلب سوي ضفتين..
ضفة تزهد الحب كله وضفة أخرى تبحث عنه بيأس..
ففي كل مرة شارفت على رؤية لوحة وليدة على الكمال.. يأخذني غضب عارم من نفسي ومما أظن حتى ألطخها بحبر أسود ثائر..
كانت ليالٍ واحدة لي وألف أخريات عليا..
ليالٍ أربح فيها حينًا وأخسر ألف حين..
ليالٍ لم أحمِ يومًا فيها نجمة خلف السياج من الغيم.. ولم أعرف يومًا ما هو الحب كالمتعالي أو كالزاهد سيئ الحظ أحيانًا..
والآن أكتب رسائل مني إلي.. ألقيها كحجر داخل قلب من ماء..
فما أستطيع قوله يَمكُث الآن في قلمي..

فصلٌ أول (هائمًا كالدرويش):
أرفع كفين في الصباح وكفين في المساء فينهمر بينهما حبك كالمطر.. واصغي إلى جسدي فاسمع جسد يئن حنينًا إلى جسد حائرًا بين السماء والأرض...
أنتِ لي آلهة وربات بلا عدد..
أنتي مهدي المنتظر طريقه كشجر لبلاب ملفوف على جسدي..
مركون أنا على ما تبقي من سحابة حنين..
ومركون على سبحة (عليً) أعد من العمر عقود الانتظار..
هنا لا أقوي على عطر يبوح بالفؤاد..
هنا يصاحبني الموت في تفاصيلك كنبيذ الجنة..
ولا يكفي التقاء أرواحنا بعد الموت كي نبقي متصلين في بوصلة العشق..
لا يكفي..

فصلٌ ثاني (رباط يسوعي المقدس):
خارج من مسامير هذا الصليب.. ولوعاتبت الله كل ليل لصدقتِك أنتي..
تُشرقِين من كتاب المرائي.. وبنار العهد كانت ثقوب النور في وجهك..
كان يكفي مرورك بحروف لغتي لأجد صورتي فيها..
وكان يكفي مرورك بالروح لتجد في جسدك روحًا لها..
فإن كان لا بد للروح من جسد لتُظهر ما أخفت للأبد.. فلا مفر للجسد من روح كي يحترق..
يا تكويني..
يا إسمًا محفور على العيون كألماظ شكله الصدي..
لا أتذكر بعد أن أحببتك يومًا من أي مهد يسوعي بُعِثتي..
فقط أحببتك كي أولد من كل شئ بحب مسيحي المجاز مفحم ببكورة وعذرية الغد..
أنا لا أنسي ولا أتذكر سواكي..
ولا أملك إلا أن أحفظ فلك الجوار دومًا.. فأنتي عِلتي وراء المصائر..
فقد تستضيف الخسارة يومًا خيطًا من ضوء يلمع في قلبي..
وقد يولد الفرح لحظة من رحم الألم..
ولالوكي ما كنت أنتظر..
لولاكي ما كنت أؤمن..

فصلٌ ثالث (غريب من بلاد الأندلس):
غريب ينهش على الشباك.. فاقتربي
كالخيمة أنتي في عزلة الملِك.. فاقتربي
اقتربي..
والمسي الأرض تحتي لتهوي كل غربة تحت قدمك العاري..
واسحبي السراب من حولي ليعرف الجميع كيف من حجر أبني سقف السماء..
وخذي حصتك من أنفاسي فالهواء يمر بيني وبينك كغريب...
هنا وقعت الفرس عن الريح وتناثرت أشلائي..
هنا أضاء لكِ ملح دمي.. وكنت آخر منفي..
ولا أخشي الحرب التي لم تنته.. كل ما أريد هو البقاء معكِ كي لا أصير غريبًا أكثر..
فإن كان عليً أن أرى نفسي دومًا خارج نفسي فأنتي المرآة بينهما..
وإن كان على المسافر أن يبقي على سفر.. فليس بوسعي إلا أن ابقي كما تركتيني أمس..
منقسمًا بين أرض وسماء..
فأنتِ من أدركت معها حدود قلبي على أنامل أصابعي وإن نسيت يومًا حدود أوطاني..
وأنت أوطاني..
أنت أوطاني..

فصلٌ رابع (شاعر دمشقي) :

إلى زهراء كلما ضوا صباحها تدفق في شعب الروح بحرًا من الهوى..
وكلما سكن الليل تغلغل في جوارحها السجًية نهرًا من الرضا..
أطير وأطير كل ليل فوق هوية أجدادي فبكِ أصير أبعد من زماني.. كحلم كل ليل يدربني على أسراره ويرحل..
ويصدح السحر داخلي كموسيقى لتكرار وجع في أغنية لم تكتمل..
وكم أحبك؟..
كم أحبك أنت التي قطعتني وترًا وترًا في الطريق إلى ليلي الحار..
كم أحبك وفي عينيك اللجوء والمنفى بعد أن خلي السقف من شبح كل ليلة يطاردني..
يا سيدة نجمتي في الليل..
أنا أقل من واحد.. فهويتي ما زالت قيد التأليف..
أمر بك كالشاعر يمشي بحروفه في هواجسه..
أمر بك كيوم مررت على دمشق وكأنني آخر الحرس ولا بلاد لي..
كبصمة أنتي على دمي.. تجلسي على عرش أغنيتي وشباكي مفتوح على الأيام..
وليس لدى سوي أن أطلب من أصدقائي نشر قصيدتي إليكي يوم تأبيني..
بعد أن قرأتها كل ليل لعينيكِ وردًا مقدسًا في الليل..
فحتى البرق لن يفرق غريب عن قصيدته..
فأعيدي عقرب الوقت لشرعية العاشق المقدس..

الفصل الأخير (المرآة) :
تسبح على ريح خاوية لأعلي.. كألف ذات تجمعت أشلائها في امرأة..
تلمع دومًا فقدها بقطرات الندي..
هي أقل منهم قليلًا..
بعيدة عن كلامها.. كالصادق في وعده عجرفة..
والأمين في وداعه الذبح..
هي أقل منهم قليلًا..
ليست سوي بين مفترس وفريسة..
لم تجتهد في اكتشاف أشد مواقع الجسد سرية..
فلم تنتبه يومًا إلى انها ولدت ولو ساعة واحدة..
فقط كل ما في الأمر أنه يعجبها إندفاع النهر في النار.. وجماع البرق والأصوات..
فقد كان صراع كل مساء يصب خارج غرفتها دومًا..
هي أقل منهم قليلا..
تمر في قلوبهم كالسهم يشق غبار الوقت والموت.. ثم يتمرد قلبها عليها..
فقد تورطت بمرآة لا يحيي فيها إلا دوامة المفتون. ولولاها ما صارت يومًا
أسطورة في خيال الجميع..
كل منهم كان حرفًا في قصيدة لا تنتهي.. وكل منهم أحب ولم يصل..
فهي أقل منهم قليلًا..
الجمال.. هذا الرماد الأبيض الذي يكسو الحق في الحقيقة دومًا..
ذلك الشعاع الأبيض الذي يعكس نظرات لا تري منها شيء.. هو فقط يمنع رحمة الظل..
فرحماك وعطفك بالذي اقترب من ذاته..
نعم.. أنا أقل منكم قليلًا..
أمر عليكم كالظل على الحجر ثم اسحب نفسي من جسد لا أراه..
وأخاف الرجوع إلى ليل عرفته..
وأخاف الرجوع إلى عيون اخترقت ضفافي لتبصر كم كان القلب حافيًا..
وأخاف الاعتراف بأنني أخاف الرجوع فألقي بنفسي كل مرة في بئر الغرور..
ثم اخرج بالمالوف دومًا بانني حبيب الله المختار وأنه " كان بي حفيًا".. كالسعيد بالحزن.. المنتشي بالوهم.. كالحالم الحائر بلا إجابات..
فطوبى للذين كانت تُسَد بهم الثغور..
وطوبى لكل الذين نظرت إليهم ولم أرهم..
فأنا..
أنا القاتل والقتيل والسكين..
أنا السجان والسجن والسجين..
الوردة واليد التي تقطفها..
وإذا ظن القاتل أنه قاتل وظن القتيل أنه قتيل فإنهم لا يعلمون ما خفي.. أنا الذراع لمن يقتل والصدر لمن يموت..
ولكنني سأعترف هذه المرة بجهلي..
فأنا من هذه الدنيا لا أدري شيئًا..
من هذه الدنيا لا أدري شيئًا..
الجريدة الرسمية