لأول مرة.. أسرار 50 سنة فى قصة حب أحمد رامى وأم كلثوم
لم يكن “أحمد رامي”، مجرد شاعر عابر، تسقط أشعاره بالتقادم وانقضاء السنين، لكنه كان شاعرًا مُفوهًا مُفعمًا بالأحاسيس والرومانسية والمشاعر الدافئة، لا تزال قصائده وأبياته شاهدةً على عبقريته الفنية، وليس من شكٍ في أن الشراكة التي جمعت بينه وبين كوكب الشرق “أم كلثوم” أكسبت أعماله خلودًا فوق خلودها، وعظمةً على عظمتها، زاد من حرارة رومانسية أغاني “رامي” لـ“أم كلثوم”، التي بلغت 137 أغنية، أنها كانت تعبر عن مكنون فؤاده وحبه وهيامه وعشقه الأول والأخير لسيدة الغناء العربي.
كان شاعر الشباب وصاحب ترجمة “رباعيات الخيام”، 1892 - 1981، عاشقًا ولهًا هيمانًا بـ“أم كلثوم”، على مدى نصف قرن بالتمام والكمال، مُخلصًا لهذا الحب، حتى بعد رحيلها، فعكس رثاؤه لها في حفل رئاسي كبير حبه الأسطوري لها، حكايات العشق والهوى، والحب الأفلاطوني، والسيمفونية التي لم تكتمل، بين “رامي” و“ثومة”.. حصلت “فيتو” على أدق أسرارها من ابنه الراحل “توحيد” الذي اختصّنا بها، فضلًا عن أوراق خاصة جدًا بخط والده وقصة ترجمته رباعيات الخيام، وخطابات متبادلة بين الأب وابنه، وصور لم تُنشر من قبل.
الصبُّ تفضحُه عيونُه
لما كان يوم الإثنين الموافق 21 يوليو سنة 1924 يحضر “رامي” من الخارج، وفي يوم الخميس من الأسبوع ذاته، يدعوه صديقه “السيد محمد فاضل”، ليسهر معه في حديقة الأزبكية، وفي هذا الليلة.. وللمرة الأولى يستمع “رامي، الذي حرص على الجلوس في الصف الأول، “لأم كلثوم” التي كانت تشدو بدون آلات موسيقية، ما إن فرغت المطربة الشابة يومئذ من الغناء، حتى دنا منها “رامي” ودار بينهما الحوار، بحسب ما يحكي ابنه:
-رامي: مساء الخير يا ستي
-أم كلثوم : مساء الخير
-رامي: أنا حاضر من غربة ونفسي أسمع قصيدتي.
ففطنتْ أم كلثوم، وقالت: إزيك يا سي رامي.. وغنَّت:
الصَبُّ تفضحُهُ عيونُه..
وتَنمُّ عن وَجْدِ شجونِه.
يكمل “توحيد” في اليوم التالي.. سافرت “أم كلثوم” إلى مدينة “رأس البر”، غير أن نار الحب توهجت في فؤاد الشاعر الواعد، وانتظرها متململًا أربعين يومًا، أضناه خلالها الغرام وأعياه السهر، وفور عودتها أحيت حفلًا في البسفور فهُرع إليها، فما إن رأته حتى غنت للمرة الثانية: “الصب تفضحه عيونه”، تحية منها إليه، بعدها زار “رامي”، رابطًا على قلبه بصخر من جلمدِ، وكانت يومئذ مُقبلة على ملء أسطوانات “أوديون”، فراجع لها الأغاني وهذَّب بعض ألفاظها، وكانت أم كلثوم التي شاهدها رامي سنة 1924 لأول مرة فتاة ذات عقال تغني وتبكي وكان شابًا شاعرًا دفاق المشاعر شجى الحس، وكطبع الحب دائمًا يبدأ بعطف من الرجل، وينتهي بعطف من المرأة، بدأ حب رامي لأم كلثوم، وبدأت أغانيه لها وللغناء المصري الجديد.
“مخطرتش على بالك يوم”
يُقال: إن “رامي” علَّم “أم كلثوم” اللغة الفرنسية، لكن “توحيد” له رأي آخر، حيث يقول: أشك في أن أبي علمها اللغة الفرنسية، هو علمها الأدب العربي والشعر، ولا أعتقد أنها كانت تتحدث الفرنسية ولا الإنجليزية، منوهًا إلى أن والده، الذي كان يعمل بدار الكتب، كان يخصص يوم إجازته لـ“ثومة”، ليرشدها إلى الكتب التي تُنمي ثقافتها، وخلال هذه الفترة، علمها اللغة العربية أكثر من الفرنسية.
يكشف “توحيد” عن أن عمَّاته هن اللاتي علمن “أم كلثوم” الحياة القاهرية، وكيف ترتدي الملابس العصرية، وكيف تتصرف كفتاة قاهرية؛ فأم كلثوم كانت تقضي أوقاتًا كثيرة من حياتها في منزل العائلة، لافتًا إلى أن والده تفرغ لأم كلثوم 12 سنة قبل أن يتزوج، وظلت تزوره في منزله، حتى تزوج في العام 1936.
يحكي “توحيد”: “طبعًا رامي كان يحب أم كلثوم لكن لم يكن يريد الزواج منها، وقد سألته ذات مرة: لماذا لم تتزوج أم كلثوم؟ فأجاب: “لو تزوجتها هبطل أكتب شعر”.. كما تساءل: كيف أسمح لزوجتي أن تقف لتغني أمام الرجال؟! ليجيب على نفسه: “بالطبع كنت سأجعلها تترك الغناء وأمنعها منه، وهذا سيكون أسوأ شيء أفعله للغناء”.
يستطرد “توحيد”: “والدي كان جادًا وصارمًا في بيته، وكان يفصل بين حياته الفنية وبين حياته الخاصة”، مشيرا إلى أن “أم كلثوم” لم تزر والده في بيته، بدءا من اليوم الذي ارتبط فيه بوالدته.
لا يفوت “توحيد” أن يذكر أن والده الذي كتب 137 أغنية لـ“أم كلثوم”، جسدت الجانب الأكبر من تراثها الغنائي الخالد، لم يتقاض منها أجرًا يومًا ما، تعبيرًا عن عشقه المتنامي وغير المتناهي لها، الذي دام نصف قرن.
آخر أغنية كتبها “رامي” لمحبوبته كانت: “يا مسهرني”، وكانت بمثابة همسة عتاب منه لها، لأنها لم تفكر في زيارته رغم مروره بحالة من الاكتئاب حبسته في منزله فترة طويلة.. تقول كلمات الأغنية:
“ماخطرتش على بالك يوم تسأل عني..
دا عنيا مجافيها النوم يا مسهرني..
أمال غلاوة حبك فين.. وفين حنان قلبه عليا”.
هذه الأغنية الوحيدة التي اهتم فيها “رامي” بالزمن، حتى إنه يقول في موضع آخر: “وهو العمر فيه كام يوم عشان نفضل على دا الحال”.. ويعقبه: “وإيه يفيد الزمن مع اللي عاش في الخيال”، وكأنه يريد أن يقول –بحسب ابنه – لها: “ أنا وأنتِ كبرنا ولم يعد هناك وقت أن نبعد ولا نكمل صداقتنا التي عشناها 45 سنة” حتى كتابة هذه الأغنية التي عاشت أم كلثوم بعد ٥ سنوات أخرى.
أصون كرامتي من قبل حبي
لم تخلُ علاقة “أم كلثوم” بمن يتعاونون معها من الملحنين والشعراء من المشاحنات التي قد تصل إلى القطيعة.. فهل تعكر صفو العلاقة بين “رامي” و“ثومة”؟
يجيب “توحيد”: “حدث ما هو أكثر من ذلك، حتى وصل الحال بأبي إلى تمزيق جميع صور “أم كلثوم” التي كان يعلقها على جدران منزله.
سألناه لماذا؟ فأجاب الابن: “لأنها قالت له: أنا آسفة أني عرفتك”، وما الذي أوصل الأمر إلى ذلك؟ فأجاب: “في حفل تكريم لعبد الوهاب في دار الموسيقى العربية، وقع سوء تفاهم، سرعان ما تفاقم عندما قالت له: “ يا ريتني ما عرفتك يا شيخ”، فوقع كلامها كسكين حاد في قلب والدي”.
ويتابع: توترت العلاقة بين الطرفين، ودامت شهورًا حتى إن «أم كلثوم» كانت تطارد “رامي”، خلالها لتصالحه وكان الأخير يرفض لقاءها، ولم تنته هذه القطيعة إلا بالأغنية التي عبر فيها عن استيائه من تصرفها، وتقول كلماتها: ”أصون كرامتي”.
أصون كرامتي من قبل حبي
فإن النفس عندي فوق قلبي
رضيت هوانها فيما تقاسي
وما إذلالها في الحب دأبي
ما جال في خاطري أني سأرثيها
في عام 1975، غيب الموت “أم كلثوم”، ليكتئب “رامي” ويكسر قلمه ويهجر شعره، لكن عندما دعاه الرئيس السادات إلى حفل تأبينها في العام التالي، أنتجت قريحته الشعرية أروع كلمات الرثاء، حيث أنشد:
ما جال في خاطري أنّي سأرثـيها
بعد الذي صُغتُ من أشجى أغانيها
يـا دُرّةَ الفـنِّ.. يـا أبـهى لآلئـهِ
سبـحان ربّي بديعِ الكونِ باريها
بدا للحضور أن “رامي” لم يكن يرثي حبيبته فحسب، بل كان يرثي نفسه وحاله، ويسدل الستار على قصة حب أسطورية تستعصي على التكرار من جميع أطرافها، من رجل لا يضن بحبه على امرأة لا تبادله حبًا بحب، حتى بعدما قضت نحبها وزوجة لا تغار، ولا تغضب من صور حبيبة زوجها التي تملأ جدران منزلها، بل تعلن أمام الجميع أنها تحب أم كلثوم كما يحبها «رامي وظل “رامي” مخلصًا في حبه خلال سنوات أخرى قضاها بعد رحيلها، كان يردد كلما أضناه الشوق:
كيف أنسى ذكرياتي، وهي أحلام حياتي؟
إنها صورة أيامي على مرآة ذاتي
عشت فيها بيقينى وهى قرب ووصال
ثم عاشت في ظنوني وهي وهم وخيال
ثم تبقى لي على مر السنين
وهي لي ماض.
قصة الرباعيات
من المحطات المهمة في حياة “رامي" ترجمته المدهشة لرباعيات الخيام من اللغة الفارسية، التي شذت «أم كلثوم» بها وقد بدأ في ترجمتها في باريس سنة 1924 بعد دراسته اللغة الفارسية في مدرسة اللغات الشرقية في جامعة السوربون، وقد صدرت الطبعة الأولى في صيف 1924، بحسب “توحيد” الذي يقول: ظلت رباعيات الخيام غائبة في بطن الكتب، ضائعة في حنايا المكتبات حتى ترجمها إلى الإنجليزية الشاعر “فتزجرالد” سنة 1859، ثم توالت الترجمات لها بعدة لغات أجنبية، وقد صدرت باللغة العربية مترجمة عن الإنجليزية، ويتذكر توحيد: “قال لي والدي إنه عندما قرأ هذه الترجمات المختلفة أحس أن هناك تناغمًا بينه وبين الخيام فهو طروب مثله.. غنائي مثله.. محب للحياة مثله».
أنشد الخيام يوما:
“أولى بهذا القلب أن يخفقا.. وفي ضرام الحب أن يحرقا
ما أضيع اليوم الذي مر بي.. من غير أن أهوى وأن أعشقا”
عاش “رامي” طوال حياته المديدة ليحب كل ما هو جميل في الحياة، بحسب ابنه الذي يقول: “شعر والدي أن الترجمة من لغة إلى أخرى قد تؤدي إلى فقدان بعض الأحاسيس والمعاني في النص الأصلي، ولهذا قرر أن يدرس الفارسية ليحس بروح الخيام الأصلية في رباعياته، ودرسه كل النسخ الخطية للرباعيات في مكتبات باريس ولندن وبرلين والقاهرة، واختار من كل ما نُسب إليه ما تحقق له مصدره ووضح خبره، ولمس فيه عمق تفكيره وطلاوة أسلوبه، وسمع منه نجوى روحه ووحي خاطره.
وهكذا داب «رامي» في ترجمة الرباعيات ترجمة يكسوها الإبداع الخلاق وتصفي عليها حيوية منتفعة»
خطابات رامي وتوحيد
في خطاب كتبه “رامي” لابنه “توحيد”، في مطلع سبتمبر 1962 يعاتبه فيه ويلومه على عدم التواصل معه منذ سفره مما يدل على شدة شوقه إليه، حيث يقول:
عزيزي توحيد..
أخيرًا وصلني ردك على خطابي الذي أرسلته إليك يوم 14 أغسطس وصل يوم 8 سبتمبر أي بعد 24 يومًا “يا قلبك يا أخي”.. وهذا الخطاب وصل إليَّ بعد سفرك بسبعين يومًا فانظر إلى الانتظار الأليم لهذا الاتصال.... نهايته، الحمد لله على اطمئناننا عليك، فقد أرسلت إليك قبل هذا الخطاب أشكو إليك نفسك في التأخير في المراسلة وإني ألتمس العذر لأنك هايص في الكريز أولا، والتفاح، والكمثرى ثانيًا، والجاتوه ثالثًا، والغابة رابعًا، وهلم جرا.
ماما تقبلك وترجوك أن تحضر لها من الأزهار الصناعية من الحجم المتوسط.
هذا الأب البسيط يقول عنه ابنه توحيد الذي كان يصغره بـ٥٠ عاما: أنا الابن الأوسط لأحمد رامي فلي أخ أكبر هو الدكتور محمد رامي، وقد سمى على اسم والد أحمد رامى الذي كان يحمل لقب دكتور كذلك، ثم أنا ثم أختي “إلهام”.. لم أقابل شخصًا خلال الستين عامًا الماضية اسمه توحيد مثلي، وقد سألت والدي ذات مرة من أين أتيت بهذا الاسم يابابا... قال: وجدت أن هناك الكثيرين جدًا يحملون اسم توحيدة فقلت لماذا لا يكون هناك رجل اسمه توحيد، عندما كبرنا أنا سافرت إلى أمريكا وأخي إلى إنجلترا وأختي سافرت إلى ألمانيا، وقال أبي لأمي: “زي ما يكون الواحد مربي غية حمام والحمام طار ولم يعد مرة أخرى”.
وقد تزامن هذا السفر مع الهزيمة في 5 يونيو 67 وهذا كان بداية مرضه بالاكتئاب، وهذا الاكتئاب تفاقم جدًا بعد موت أم كلثوم سنة 1975 وتوفي هو سنة 1981.
كما شغلت غربة ابن رامي “توحيد “ في ألمانيا خاطر أبيه فراسله كثيرًا، ونجده يقول في إحدى هذه الرسائل:
- الجمعة 21/ 9/ 1962
عزيزي توحيد..
“وصلنا كارتك الجميل من هامبورج الميناء العظيمة، وقد سررنا به كثيرًا لأننا في ساعة وروده كنا نتحدث عنك، وننتظر رسالة منك وصدق المثل الذي يقول: “جبنا سيرة القط جانا ينط”، فأهلا بكل ما تبعث به إلينا من كل بلد تشد الرحال إليه، ونحن نأمل، إن شاء الله، أن يصلنا كارت آخر.. كتب الله لك السلامة في كل رحلة تقوم بها.
لم نفهم في الكارت هل أنهيت العمل في الشركة وبدأت رحلتك على أن تظل بغير عمل إلى حين سفرك بإذن الله يوم 18 أكتوبر؟ على كل حال أنت أدرى بمصلحتك وكل ما يهمنا هو انتظار حضورك بالسلامة”.
يسترجع المهندس “توحيد” ذكرياته مع والده قائلا: والدي عمره ما عاقبني بل كان صديقي وحتى إذا غضب فبعد نصف ساعة يزول هذا الغضب.. الفرق بينه وبيني 50 سنة لكني عمري ما شعرت بهذا الفرق، وكان معلمي دون أن يتعمد أن يعلمني، وهو كان يعرف أشياء كثيرة جدًا أنا لا أعرفها فكان يقولها لي فكنت أتعلمها منه...
يكمل توحيد والدي كانت جلسته “حلوة” مثلما يقولون، وكان صاحب نكتة.. كان يأخذنا مثلا السيرك حيث كان يأتي زمان سيرك إيطالي.. وعندما طرحت أفلام “والت ديزني” كان يصحبنا إلى السينما، كذلك يتنزه معنا في حديقة الحيوان، وكنا لا بد أن نذهب إلى المصيف مع بعض سنويًا.. بدأنا نصيف في رأس البر ثم في الإسكندرية.
أحمد رامي كان مختلفًا كإنسان في السنتين الأخيرتين قبل رحيله، حيث يقول توحيد: خلال السنتين الأخيرتين لم يكن يتكلم كثيرًا لكني كنت أحب أداعبه و”أنكشه” عن أم كلثوم، لكني للأسف كنت عائدًا من أمريكا، وبدأت أسعى لإثبات وجودي في مجال جديد، فلم أكن أجلس معه كثيرًا.. فأنا حزين جدًا.. وهذه الحكاية تؤلمنى لأننى ابتعدت عن والدى 11 سنة، لكن كنا دائمًا نتبادل الرسائل على الأقل رسالة كل أسبوع وكنت آخذ إجازة كل سنة ثلاثة أسابيع لأجلس معه، ولمدة 11 سنة يرسل لى جوابًا على الأقل مرة كل أسبوع، أنا وإخوتي، لكنهم لم يغيبوا طويلا مثلي، حيث إنني سافرت مع النكسة وعدت مع اتفاقية السلام في عهد أنور السادات.
"نقلا عن العدد الورقي.."