رئيس التحرير
عصام كامل

الإسكندرية ترفع «الراية البيضا»


اقترب العام من نهايته وقررت إحضار شجرة للاحتفال على ألا أعلق عليها الزينة مكتفيًا بتعليق همومي، حتى أدخل العام الجديد محتفظًا بالأمل الذي قيل إنه بقي وحده في داخل صندوق "باندورا" الإغريقي فأصبحت الحياة على الأرض محتملة رغم كل الشرور.. وفي هذه الأيام تحاول بعض البرامج التليفزيونية نشر أجواء احتفالية ربما تكتمل إذا قرر بعض الإعلاميين التوقف عن الظهور وإيقاف برامجهم لتخفيف المعاناة عن المواطنين.


وعندما فكرت في أحداث العام المنقضي وجدت أن بعض أحلامي لم تتحقق، لذلك في لحظة يأس حاولت الانتحار عبر مشاهدة حلقة كاملة من برنامج "توك شو" قبل أن أعود إلى رُشدي وأغلق التليفزيون محاولًا الاحتفاظ بعقلي في ظل تخصص بعض الإعلاميين في عمليات هدم العقول وتفريغها وتسطيحها، حتى أصبحوا ينافسون المقاولين في عمليات الهدم العشوائية.

والحديث عن المقاولين له شجون، فمنهم فئة تتخصص في إزالة الجمال.. وإذا كان مسلسل (الراية البيضا) قد أشار إلى هذه الظاهرة منذ ثلاثة عقود فإن مدينة الإسكندرية قد رفعت بأكملها الآن "الراية البيضا" واستسلمت لمعاول الهدم.

وقد قرأت تعليقات باحثين ومسئولين وخبراء عما يتعرض له التراث المعماري في الإسكندرية إلا أن الوحيد الذي أعطاني تفسيرًا وافيًا كان بائعًا للخضراوات، حينما أخبرني بطريقته السرية في جذب الزبائن، حيث يضع الخضراوات الطازجة دائمًا فوق السطح بينما الفاسدة يضعها في القاع، فينخدع الزبون بينما يقوم البائع بالتخلص من البضاعة المتواجدة في القاع أولًا، وعندما ينتهي منها يتفرغ لبيع خضراوت السطح.. وهي تقريبًا نفس طريقة تعامل المقاولين مع مدينة الإسكندرية، حيث تركوا بعض المباني المعمارية المميزة لتراث المدينة على البحر حتى تكون واجهة للمدينة، بينما قاموا بهدم المباني والفيلات الأخرى داخل المدينة بشكل منتظم ودون رادع، تحت غطاء قانوني تُسهله الرشوة أحيانًا والإهمال في أحيان أخرى، حتى كادت الإسكندرية أن تفقد تراثها المعماري بأكمله.

لذلك عندما عرفت أن عمارة "راقودة" الشهيرة على البحر في طريقها للهدم فهمت أن بائع الخضراوات قد تخلص من بضاعته بأكملها وبدأ التفرغ لبضاعة السطح، وإذا حاول البعض نسب عمارة "راقودة" ليوسف شاهين صاحب ثلاثية الأفلام عن الإسكندرية في محاولة يائسة لإنقاذها، فإنني أُبشرهم بأن الفيلا التي سكنها "لورانس داريل" صاحب رباعية الإسكندرية، قد تم هدمها قبل شهور قليلة، فالمدينة التي يصفها البعض بعروس البحر تزوجت من مقاول لا يُجيد إلا الهدم.
الجريدة الرسمية