رئيس التحرير
عصام كامل

وقف حال وخسائر بالجملة للأهالي.. الجانب الآخر من إغلاق شارع السودان (صور)

فيتو

تتصدر أخبار إنشاء خطوط جديدة من مترو الأنفاق اهتمام القاصي والداني في القاهرة الكبري، ولم لا، فالمترو وسيلة حيوية يعتمد عليها نحو 3.5 ملايين قاهرى يوميًا، وبه يختصر هؤلاء مسافات طويلة في مدة لا تُذكر مقارنة بها في المواصلات العادية، ولقد تهللت أسارير الكثيرين بمجرد الإعلان عن استكمال الخط الثالث لمترو الأنفاق والممتد من إمبابة إلى مطار القاهرة، فخط جديد يعنى استيعاب عدد أكبر من الركاب وانحسار التكدسات والزحام في شوارع العاصمة.


واستعدادًا لاستكمال الخط الثالث للمترو، كان لا بد من بدء إغلاق شارع السودان من الاتجاهين لإنشاء محطتى الكيت كات والسودان، ويوم الجمعة الماضي كان بداية تنفيذ هذا القرار الذي لاقى ترحيبًا من سكان الشارع ومحيطه حتى وإن كان المقابل هو دفع المزيد من الوقت في الانتقالات، إلا أنهم أبدوا استعدادًا كاملًا للتحمل في سبيل إتمام المشروع الذي سيتسبب بمجرد انتهائه في "نقلة نوعية" للمنطقة على حد قول بعضهم.

 سكان شارع السودان ومحيطه يدفعون من أوقاتهم ثمنا لإنهاء الخط الثالث لمترو الأنفاق

ولكن كما رحب الغالبية العظمى من السكان بإغلاق الشارع في سبيل الهدف القومى حتى على حساب أنفسهم، كان هناك من وقع الخبر على قلوبهم وقع الصدمة، وبسببه تبدلت حياتهم من النقيض إلى نقيضه، فبعض أصحاب المحال التي تطل على الأجزاء المغلقة من الشارع توقف "حالهم" تمامًا وأرزاقهم شبه انقطعت من المكان الذي اعتادوا عليه منذ سنوات لأن أعمالهم تعتمد بصورة أساسية على السيارات ولم يكن أمامهم بعدما نفذ الأمر وإغلاق السودان إلا أن يرثوا حظهم وأن يتوجهوا بالدعاء إلى الله أن يجد لهم سبيلًا بديلًا بعدما خلت أذهانهم من الحلول وجيوبهم أوشكت أن تخلو من الأموال.
لم يعُد أمام أصحاب المحال التي تعتمد على السيارات سبيلًا لعملهم بعد إغلاق الطريق وفتح ممرات ضيقة للمارة

منذ زمن، كان الأسطى محمد عبده، ابن أوسيم، يعيش حياة مستقرة، راضيًا بحاله وبما من الله به عليه من سعة في الرزق بفضل محله الذي يملكه في شارع السودان، أكثر شوارع القاهرة حيوية وحياة، وكان يضع دومًا في "بطنه بطيخة صيفي"، ولم لا؟ فقد أصبح له زبائن عدة في هذا المكان المميز يعهدون إليه كلما أصاب "كاوتشات" سياراتهم أي عطب أو تلف، لم ير من الدنيا سوى وجهها الجميل اللهم إلا القليل من المشكلات المعتادة، ولكنه في أسوأ كوابيسه لم يكن يتخيل للحظة أن تنقلب دنيته وأن تتحول جنته في شارع السودان إلى نار يحاول الهرب منها إلى بديل آخر.

أصبحت أقدام الأطفال هي المنتشرة في الأرجاء وهى التي عادة ما "تدب" حاليًا أمام محل أسطى "محمد"

يحكى الأسطى عبده كيف تبدلت أحواله بين عشية وضحاها «لحد الخميس بالليل.. الحياة كانت طبيعية ومفيش أي مؤشرات لأى تغيير، ما حدش كلمنا أو فتح معانا موضوع قفل الشارع.. روحت بيتي ويوم الجمعة كان إجازة.. لما جيت السبت الصبح.. اتصدمت»، كان مشهد الطريق المغلق والأحجار التي تصطف أمام محله من أسوأ المشاهد التي يتمنى الأسطى محمد محوها من ذاكرته، فمنع مرور السيارات من هذا الشارع يعني سد كل طريق ممكن للمكسب، «ما قدرتش أتكلم ولا عملت حاجة.. خدت الصدمة في قلبي وسكت».

كان مشهد الطريق المغلق والأحجار التي تصطف أمام محله من أسوء المشاهد التي يتمنى الأسطى محمد محوها من ذاكرته

لم يكن أمام الأسطى محمد أي اختيار آخر سوى الاستسلام للأمر الواقع ومحاولة إيجاد حل في أسرع وقت ممكن بعدما غلقت في وجهه الأبواب، "ما كنتش ممكن أتخيل إن المحل اللى كنت شايف أن مفيش زيه يجي اليوم اللى أدور فيه على غيره.. ده فات كام يوم بس والحال واقف ومايل.. طيب في الثلاثة سنين هعمل إيه؟"، ترك الأسطى محمد محله باحثًا في المنطقة عن مكان آخر، رافضًا طرح المحل للإيجار "هيبقي حرام عليا ده مالوش قيمة وخسران.. وكمان مش بفكر أبيعه.. هأجر محل تانى المدة دى بدل ما أفضل أخسر".

 أسطى محمد: المحل اللى كنت شايف أن مفيش زيه يجي اليوم اللى أدور فيه على غيره

كان الحزن مسيطرًا على وجه إسلام، صبى الأسطى محمد، بينما يجلس شبه عاطل وهو الذي لم يعرف البطالة يومًا، فقد كان يومه دومًا صاخبًا بالعمل، أما الآن وبعد إغلاق الشارع ومنع عبور السيارات من أمام المحل الذي يعمل به، أصبح " بلا شغلة أو مشغلة"، أقصى ما يفعله هو "لعب الكرة" في الطريق الشاغر أمام المحل قبل أن يُغلق هو أيضًا، يلعب ولكن في قلبه ألم "المحل ده كنا بناكل منه عيش وكان لاممني أنا والاسطى.. كده حرام وبيتنا اتخرب".

الأسطى محمد وصبيه إسلام

بصيص أمل يأتي لإسلام والأسطى محمد في تلك الأيام العصيبة حينما يأتى إلى المحل أحد زبائنه القدامى طالبًا المساعدة، فيحمل إسلام العدة ويتجه صوب مكان السيارة في أحد الشوارع الجانبية، ولكن هذا الأمر بالرغم من أنه بمثابة شعاع نور وسط عتمة الواقع إلا أنه لا يمنح الأسطى محمد أي بشرة خير "الزبون هو اللى بقى ممكن يفك الكاوتش بنفسه وانا أخده منه وأصلحه أو أروحله أنا أو الصبى لو هو قريب لكن بقي صعب يجيلي.. وده ممكن يخلي زبايني يروحوا لغيري مع الوقت بدل بهدلتهم دى".

 إسلام وعدته مع أحد الزبائن لإصلاح كاوتش سيارته في إحدى المناطق المجاورة

لم يكن حال الأسطى عمار أفضل من سابقه الأسطى محمد، فقد اضطر أن يغلق محل ضبط الزوايا والترصيص الخاص به القريب من ميدان الكيت كات والذي يطل على الجزء المغلق من شارع السودان، فلا جدوى لعمله دون سيارات تمر، لم تكن صدمته كبيرة بإغلاق الشارع أمام محله في بداية الأمر فقد كان معتقدًا أن مشروع إنشاء المحطات سيتم على مراحل وأن "الصاج" الذي يحيط بمنطقة العمل ويغلق الطريق أمام رزقهم سيتم إزالته في غضون ستة شهور بمجرد الانتهاء من هذا الجزء من المشروع، وكان يرى أن ذلك أمر هين يمكن تحمله والعوض عنه بأى سبوبة، ولكن صدمته تفاقمت بعدما سمع بنفسه من المهندس حقيقة أن هذا "الصاج" سيظل على حاله حتى إتمام المشروع بالكامل أي بعد ثلاث سنوات كاملة، هنا لم يكن أمامه بدٌّ إلا أن يجلس على الرصيف راثيًا حاله "الشغل اتضرب.. 3 سنين هوكل عيالي إزاى فيهم.. حرام.. ده اللى كان بيجي كان بيروح في إيجار المحل ويا دوب باصرفه على العيال في المدرسة دلوقتى أبيض يا ورد.. فوضت أمرى لله".

 لافتة أصبحت ذكرى ولم يعد لها جدوى بعد إغلاق شارع السودان

فوق بضعة أحجار من تلك التي تطوق الجزء المغلق من شارع السودان والتي لم يعتلها بعد الحاجز الحديدي لمشروع مترو الأنفاق الملون بالأخضر والأصفر، تطل "بوكيهات" ورد ملونة، قد تبدو عبثية وسط المشهد، ولكنها كانت وسيلة محمود الوحيدة للإعلان عن استمرار وجوده بينما توارى الجزء الأكبر من محله خلف "الصاج" فقرر أن يستغل كل فجوة لعرض وروده "مش عندى حل دلوقتى غير إنى أعرض على الرصيف اللى مافيهوش صاج".

لسان حال محمود: يا ورد مين يشتريك؟.. كنت في الفاترينة حاميك.. دلوقتى على الرصيف راميك

كان محمود يحاول انتقاء الأفضل من بين وروده الذابلة لكى يضيفها إلى البوكيهات المعروضة لعل وعسى أن يأتى أحد من المارة ويشتري بوكيهًا قبل أن يُغلق الطريق بالحواجز الحديدية بالكامل ولا يبقى سوى الممرات الضيقة ويخسر هو خسارة فادحة، فحينما كان يشترى كميات كبيرة من الورود استعدادًا لموسم الكريسماس والأعياد، لم يكن على علم تام بأن وروده تلك ستذبل في مكانها، وأن الشارع الحيوي سيسكن وسيتم إغلاقه وأن محله لن يرى السيارات بعد اليوم، وهو الذي كان يعتمد عليها بشكل أساسى، فركابها هم زبائنه الأساسيون وهم من يشترون البوكيهات ويزينون سياراتهم في الأفراح، أما سكان المنطقة فالورد يقع في آخر قائمة أولوياتهم.

 ذبلت وريقات الورد في انتظار زبائنها

لا يملك محمود بديلًا آخر لهذا المحل الذي كان منذ أقل من أسبوع مصدر رزق "محترم" له ولابن عمته مسعد، ولكنه مع انحسار المكسب وذبول البضاعة في أهم مواسم السنة وجد أن طريقه مسدود" هي 3 سنين شوية؟.. مكسبي دلوقتى من زبايني اللى بيشتروا مرة كل أسبوع أو شهر.. مكسب مش مضمون.. وأنا مش هدفع فلوس في الورد وفى الآخر أرميه.. ده حرام.. أنا أكيد هقفل المحل لما الرصيف كله يتقفل بالصاج".

 محمود: أنا أكيد هقفل المحل لما الرصيف كله يتقفل بالصاج

في الدور الأول من مدخل إحدى المؤسسات بشارع السودان، وبالقرب من محل محمود للورد، تقع قاعة أفراح، كانت منذ أيام قليلة تعج بالصخب ويملؤها الفرح من كل جانب، فقط من يوم الجمعة، وبمجرد أن تفاجأ أصحابها بإغلاق الشارع ومنع السيارات من المرور، ذبلت القاعة وكأنما قبضت روحها، وأصبحت خاوية على عروشها اللهم إلا من كراسيها وطاولاتها التي تم تجديدها في الآونة الأخيرة لتكون في أبهى حالة لتستقبل المزيد والمزيد من العرسان.

أصبحت قاعة الأفراح خاوية على عروشها اللهم إلا من كراسيها وطاولاتها التي تم تجديدها

يقف مدير قاعة "فورسيزونز" أو الفصول الأربعة، وحيدًا، يقلب كراسيها بين يديه، منتظرًا العرسان الذين يأتون إليه للاحتفال بليلتهم في القاعة ولكن تفاجأ بإلغاء حجوزاتهم بها واحدًا تلو الآخر، في مشهد أحزن قلبه حيث كان شاهدًا على نجاح هذه القاعة وشاهدًا أيضًا على تحولها في بضعة أيام من منتهى الصخب إلى أقصى درجات السكون، فكيف لها أن تعمل وكل السبل إليها مسدودة ولا طريق يمكن أن يصل من خلاله العرسان وذويهم إليها.

خريف قاعة "الفصول الأربعة" يمتد لثلاث سنوات
"هنقفل طبعًا"، قال مدير القاعة هذه الجملة دون أدنى تفكير فلا مجال للعمل في هذا الوضع إلا لو ارتضى العريس والعروسة أن يصلا إلى القاعة "مشيًا على الأقدام" على حد قوله، وهو أمر مستحيل تمامًا كاستحالة المطالبة بتوفير طريق لدخول السيارات، ولا يوجد بديل لصاحب القاعة ومديرها سوى توديعها لحين إشعار آخر.. بعد ثلاث سنوات.

 نظرة أخيرة من القاعة على شارع السودان بعد أن أصبح خاليًا من السيارات
الجريدة الرسمية