رئيس التحرير
عصام كامل

الفيتو.. حق إزهاق الحق


إذا كنت أمريكيًا لا بد أن تخجل عندما تطالع تاريخك مع البلطجة، نعم فأمريكا هي أكثر دول العالم ممارسة للبلطجة، سواء كانت تدخلا عسكريا مميتا، أو تغييرا في الأنظمة بالقوة الجبرية، أو احتلالا صريحا، وإذا كنت أمريكيًا فإنك بالتأكيد ستجد صعوبة في إقناع أبنائك بالقيم والمثل العليا، وسيكون حديثك أجوف، عندما تقول لأحفادك إنك تنتمي إلى دولة مارست القتل خارج القانون ليل نهار.


وآخر مرات ممارسة بلادك للبلطجة ضد القيم الإنسانية والحق والعدالة كانت منذ أسبوع، وهي المرة الــ٤ التي تمارس فيها بلادك حق إجهاض الحق بالفيتو، والفيتو ليس إلا قانونا للبلطجة الدولية.. بلطجة برضا العالم، بلطجة ضد العدل والحق والقانون، بلطجة منحتها الأمم المتحدة - ذلك الكيان الذي نشأ في مجمله ليقي العالم ويلات الحروب والدمار، لخمسة من الكبار الذين رفضوا الانضمام إليها في بادئ الأمر، فلم يكن من العالم الضعيف إلا أن وهب حق البلطجة إغراء لهم ليصبحوا أعضاء في هذا الكيان.

والفيتو هو حق محو أي قرار لا ترتضيه الدول الخمس، دون إبداء الأسباب، إتاوة بلا مبرر، فرض الأمر بالقرار الجائر، بالقوة والجبروت، بالقهر والعسف والتنكيل، بكل صنوف الخروج على الناموس الطبيعي، الفيتو بمعناه الحقيقي دون تجميل هو الحق في إزهاق الحق، وقتله، ووأده، وسحله، وممارسة العنت ضد كل ما هو إنساني، هو الجبروت بعينه وهو الظلم الواقع على الإنسانية رغما عنها.

ورغم كل هذا الهوان فإن أمريكا وحدها قد وُضعت في الأسبوع الماضي في خانة ما هو أكثر هوانا.. صوتت ١٢٨ دولة لصالح الحق الفلسطيني في القدس، وبقيت أمريكا بكل جبروتها وحيدة في مربع "اللعب ضد الإنسانية".. أصبحت منبوذة، وبعد أن كنا نتحدث عن القدس في وجدان المسلمين والمسيحيين واليهود أصبحت بفعل الإجرام الأمريكي في مساحة أوسع، أصبح القدس قضية إنسانية، قضية للبشرية كلها محذوفا منها أمريكا، وبعض الدويلات التي قرأنا أسماءها لأول مرة في التاريخ.

وبعد هذا الإجحاف وتحول قضية القدس إلى قضية إنسانية؛ يصبح لزاما علينا أن نتعامل مع أعداء القيم بما يليق بهم، إذ يجب على الميديا العربية أن تمحو من مصطلحاتها اسم "إسرائيل" ولنعبر عنها بـ"الكيان المحتل".. وزير دفاع الكيان المحتل.. رئيس وزراء العدو.. المتحدث باسم جيش الاحتلال.. ولتعد الخريطة كما كانت وكما ستكون بإذن الله.. خريطة "فلسطين"..لا تذكروا أسماء وزرائهم دون وصفها بما يليق بها.. امنعوا تداول كلمة إسرائيل من الإعلام نهائيا.

لقد كشف التصويت الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة كيف وضعت أمريكا في الموقف الذي يليق بها، ‬١٢٨ دولة قالت كلمة الحق رغم التهديد الأمريكي الساذج بقطع المعونات والتنكيل بكل من يصوت لصالح القدس، وجد المارد الأمريكي نفسه محاصرا كما لم يحاصر من قبل، وجد ترامب وإدارته قيمة أمريكا الحقيقية أمام أعينهم، حوصروا في مربع المنبوذين والعنصريين وأدعياء الإنسانية.

لو كنت أمريكيا بالتأكيد شعرت بالعار يحيط بك، لم تنم ليلتك، طاردتك الطفلة "عهد" في نومك، وهي تقف شامخة برقتها وقوتها وصلابتها في وجه المحتلين في الأرض المحتلة، ربما تكون قد انزويت جانبا خشية أن تواجه ضمير العالم، خشية أن يسألك طفلك عن القيم التي تتغنون بها ليل نهار حول الحرية والديمقراطية، عن أي ديمقراطية يمكنك أن تحدث طفلك، ديمقراطية "ديكتاتورية الفيتو" التي أسرفت بلادك في استخدامها ضد الناس والمظلومين والمقهورين والمعذبين.

ليست المرة الأولى في تاريخ بلادك تصبح وحيدا حاملا السيف في مواجهة الزهرة، قاذفا البارود في وجه الأطفال،مطلقا قنابلك على السنابل الخضراء في الأرض المحتلة، ناصبا تمثال الحرية فوق أرض رخوة لا تحتمل زيف بلادك، وقهر بلادك، وظلم بلادك، ليست المرة الأولى التي تقف فيها ضد العالم، ضد الضمير،ضد الإنصاف، ضد القيم التي تنادي بها في أسواق النخاسة!!

لو كنت أمريكيا كيف ستفسر لأولادك سر هزيمتكم النكراء أنتم والمحتلين في بلادنا؟ ماذا ستقول لهم عن حصار الحق لباطلكم؟ كيف ستعبر عن نكسة ستظل واحدة من علامات انتصار المنطق في مواجهة الغطرسة؟ ماذا ستقول عن سر الهزيمة والانكسار والمرار بعد تصويت ١٢٨ دولة ضد جبروتكم؟ ماذا ستفعل مع التاريخ الذي سجل أكبر انتفاضة إنسانية ضد قهر بلادكم وجعلكم أذلة بين الأمم؟

وأخيرا: شكرا لغطرستك التي حولت قضيتنا إلى قضية يؤمن بها الكون كله، وهنيئا لك بسبع دويلات هي كل رصيدك، هي كل قوتك الدبلوماسية، شكرا لأنك تعريت تماما ورأيناك بلا رتوش، بلا زينة، بلا ميكاج، بلا تمويه، وشكرا لأنك وضعت نفسك في المكانة التي تستحقها، رأيت نفسك الآن بلا ورقة توت تستر عورتك التي بدت مكشوفة أمام العالم، وشكرا لكل دولة عبرت عن ذاتها الإنسانية، دون خوف أو رهبة أو تردد، شكرا لإنسانية العالم التي أعادها الفيتو الأمريكي لتقف شامخة في مواجهة الجبروت، لتزرع من جديد أملًا ضد كل محتل غاصب.
الجريدة الرسمية