رئيس التحرير
عصام كامل

عرب بلا قدس.. أوطان بلا حرية


«مثل لحظة شبق في الحرام سرعان ما تختفي.. مثل ومضة كويكب سقط من عل ثم اندثر.. مثل إضاءة فلاش فاسد سرعان ما تنتهي.. مثل شعاع شمس على القطب الشمالي لا يعيش طويلا».. هكذا كانت انتفاضة الشعوب العربية مع القدس، وهكذا أصبحت مشاعر الجماهير الوطنية.. مجرد تويتة على شبكة التواصل الاجتماعي لا يبرح تأثيرها أن يزول قبل الكتابة.. مجرد صورة ترفع على صفحة الفيس تصبح اعتيادًا لا تأثير له.


مثل صرخة يطلقها مشخصاتي على خشبة مسرح، لا تعدو حال كونها مجرد دور ينتهي عقب إسدال الستار.. مثل تأوهات بنات الليل الرخيصة في أحضان من يدفع؛ لا تعدو حال كونها رخصة بيع للجسد المبعثر على الطرقات.. (مثل رقصة حشرها مخرج مقاولات في فيلم تجاري هابط).. مثل الصداع المصطنع لا يكون إلا هروبا من نقاش جاد.. مثل صورة باهتة للوحة أصلية لا يملكها إلا من ليس لديه جدار يعلقها عليه.. مثل سقوط مصطنع للاعب أراد أن يهرب من المباراة.. مثل كل الأشياء التي نفعلها بلا يقين أو عقيدة أو وجدان حقيقي.. هكذا كنا نحن الشعوب العربية بعد جريمة ترامب.

ورغم الإهانة في التوقيع، ورغم الاستعراض الزائف لرئيس مجنون، ورغم كل ما للقدس من مساحة وجدانية ورمزية دينية وقيمة تاريخية.. استطاع الكرسي العربي أن يحول الشعوب إلى أراجوزات، وفي الأكثر تأثيرا تحولنا إلى حوائط للبكاء.. جدران داخل البيوت والمؤسسات والشركات والوزارات وكل الحوائط التي تحبس الأنفاس.. مثل الزنازين التي تعتبر في بلادنا إنجازات، ومثل تخشيبات لتأديب الخارجين على الناموس "الحاكم والمتحكم".. مثل أسوار القابضين على الحماس والإحساس!!

لم تتحرك فينا إلا دوريات الحاكم الليلية، لا تبحث عن لص، بل تلهث وراء محتج أو معاند أو مكابر أو وطني غيور.. لم ينشط فينا إلا عسس السلطان في الظلام الحالك، يتلصصون على الجدران الصامتة، ربما تبوح بشيء يعكر صفو الأمير في قصره.. لم تدب الحركة إلا بين وزراء الملوك وإذاعات الملوك ومطابع الملوك ومداهني الملوك وسدنة الملوك الجاثمين على صدورنا، منذ عصور المنابر المؤممة والمدارس المغلفة، والجامعات المسورة بأسوار الخوف.

مئات الملايين من زبد العرب تذهب جفاء كل ليلة.. مئات الملايين من العرب أنشدوا في السيف وللسيف دون أن يروه، ومئات من ملايين العرب المنتصبين فوق "خوازيق" الاستقرار والأمن والأمان الوهميين.. مئات الملايين من عرب السيف والرمح والقرطاس والقلم سقطوا عشقا في الأناشيد دون غيرها.. مئات الملايين من عرب استكانوا وهانوا واستسلموا وضاعوا.. شربوا حتى السقوط في مستنقع التغييب والوهم والوهن والضعف.

المقدسيون هناك وحدهم يواجهون الموت؛ دفاعا عن شرف العروبة.. يدفعون بصدورهم العارية كل ألوان الهوان دفاعا عنا.. يقدمون أطفالهم وقودا للذود عن كل قيمة عربية موءودة في بلادنا.. تخرج نساؤهم في جماعات للحديث عن الرجولة العربية والشهامة العربية والشجاعة العربية، والإقدام العربي والإلهام العربي، والحضارة العربية، وكل صنوف المجد العربي الغائب تحت عباءة الملوك والأمراء والرؤساء.

مثل خبيئة المقابر الفرعونية العتيقة؛ تخرج علينا كنوز فلسطين تحت شجرة الزيتون المنتصبة بجذور تمتد في عمق الزمان.. ترتسم على ملامح صبي لم يتجاوز السنوات العشر، حاملا سلاحه في يده.. حجرًا يزلزل صواريخ المحتلين.. يزرع بالقذف المتوالي لأحجار من سجيل مجدا جديدا يصيب أول ما يصيب عواصم العرب.. وشعوب العرب وحكام العرب، وسكارى العرب في حانات العم سام.

مثل لحظات السَحر ينبت فجر جديد، يطل بأنواره على قبة الصخرة عبر فتاة مقدسية هانت عليها الحياة من أن تعيش ذليلة مثلما نعيش.. منكسرة مثلما نحيا.. مشوهة مثلما نعيش.. جبانة مثلما نمضي.. مثل صهيل الخيل القافز فوق الأسوار؛ ينطلق شاب مقدسي فوق النار ملقيا روحه الطاهرة فداءً لنا؛ تاريخا لنا، مجدا لنا، عزا لنا، شرفا لنا.. مثل معجزات الزمن الغابر يمضي شيخ عجوز بعصاه، سيفا وصاروخا ودانة أشرف من أسلحة الحاكم المخزّنة حول المدن والمنصوبة حول القصور والموجهة للشعوب.

والشعوب استراحت وراحت في سبات عميق.. استكانت وهانت واستسلمت لعسس الحكام.. راق لها أن تعيش الحالة.. حالة الثبات؛ الثبات على السكون.. في السكون بركة وفي الحركة قبض وحبس وسجن وقتل.. في الحركة خيانة للاستقرار، نيل من وحدة الأوطان.. ودون أن ندري أو بمعلوم لدينا؛ أحببنا الاستقرار.. استقرار الغاصب على أرضنا.. استقرار المحتل على قدسنا.. ودون أن نعلم أو بيقين لم نفكر في معنى وطن بلا حرية.. نعم، «أوطان بلا قدس هي أوطان بلا حرية»، مثل كل الزنازين.. لا فرق بين الزنازين والعواصم إذا لم يكن من بينها القدس.
الجريدة الرسمية