«النيويورك تايمز» والعقل الأمريكي المضطرب
صحيفة "النيويورك تايمز" هي نموذج حي للعقل الأمريكي المضطرب.. فالصحيفة الأمريكية عادة ما تنتقد الحياة السياسية في مصر وتدني مستوى الحريات، وهو ما أتفق معه في بعض الأحيان، ولكنها كغيرها من الإعلام الأمريكي يعاني من عقل مشوه عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية الأمريكية أو الأمن القومي الأمريكي.. فالصحيفة الأمريكية نشرت تقريرا عن قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية للقدس، ولكنها لم تنتقد القرار.. التقرير الذي جاء بعنوان "ترامب يبدو مشوشًا حول القدس نصح ترامب بأن يقنع القيادة الفسلطينية والقادة الأوروبيين بأنه ينوى نقل السفارة الأمريكية للقدس الغربية، على أن تظل القدس الشرقية عاصمة لفلسطين.. التقرير لم يوبخ ترامب على أنه تسبب في غضب وحنق الشعوب العربية، وأنه تحيز واضح للإسرائيليين ضد الفلسطينيين.
الاضطراب الذي تعاني منه صحيفة "نيويورك تايمز" ظهر بشكل أكثر وضوحًا، في تقرير بعنوان "حقيقة، مصر حليف سيئ" Actually، Egypt is bad Ally.. التقرير الذي كتبه "أندرو ميلر" و"ريتشارد سوكولسكي" كشف عن تحيز وكراهية تجاه مصر.. بداية، عنوان التقرير يخلو من أي قيمة صحفية موضوعية، ويعود بالصحيفة لعهود أسوأ من عهد قناة "فوكس" الإخبارية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش، وهي القناة التي كانت مرتعا للجمهوريين، استخدموها في غسل أدمغة الأمريكيين، حتى فاض بالبعض الكيل فأنتجوا وثائقيا ضدها بعنوان "حرب مردوخ على الصحافة".
الصحيفة الأمريكية "المضطربة" طالبت مايك بنس، نائب الرئيس، الأمريكي بضرورة إخبار الرئيس المصري بأنه سيتم تقليل المساعدة العسكرية لمصر؛ لأن ذلك سيوفر الكثير من الأموال على دافعي الضرائب، وسيبعث برسالة للمصريين تقول إن المساعدات الأمريكية لم تعد غير مشروطة.
وبدلًا من أن تعيب الصحيفة الأمريكية على السيد ترامب سياسته الخارجية الفاشلة، انتقدت الاتفافية البرلمانية بين مصر وروسيا والتي منحت الدولتين إمكانية استخدام القواعد الجوية.. ثم عاب الكاتبان على مصر قراراتها التي تحذو حذو الموقف الروسي فيما يتعلق بـ"القضايا" المتعلقة بسوريا وفلسطين-إسرائيل، حسب تعبير الكاتبين.
ويبدو من الضروري هنا أن ننبه الصحيفة إلى التشوه الذي أصاب العقل الأمريكي، وهو ليس تعبيرا خاصا بالعبد لله، ولكنه مقتبس من الكاتب والمفكر الأمريكي، "نعوم تشومسكي"، والذي يصف النفاق السياسي بالعقلية المشوهة.. والنفاق السياسي حسبما يقصده "نعوم تشومسكي" هو أن "تُجبر الآخرين على سياسات ترفض أن تقبلها لنفسك".. فإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية اتخذت قرارًا بنقل السفارة الأمريكية للقدس، وعللت ذلك بأنها تفعل ما يتفق ورؤيتها وسياستها الخارجية في الشرق الأوسط، فلماذا تستكثر صحيفة "النيويورك تايمز" على مصر أن تتخذ ما تراه مناسبا فيما يتعلق بوضعها الإقليمي.. أم أن مصر يجب أن تظل حبيسة التنطُع والتكبر الأمريكي.
تحريض الكاتبين الأمريكيين "أندرو ميلر" و"ريتشارد سوكولسكي"، للإدارة الأمريكية ضد مصر بسبب الاتفاقية الأمريكية بين مصر وروسيا هو نموذج لأسلوب دعائي بغيض، يُطلق عليه الباحثون في علم الدعاية مصطلح "المعضلة الخاطئة" أو False Dilemma، والذي دائمًا ما يعطى الضحية إما اختيار أن تكون مع الجاني لتنعم بثرواته ورحماته، أو ضده فلا تنتظر إلا عقابه ولعناته.. انتقاد مصر بسبب الاتفاقية التي أبرمتها مع روسيا، تعني أن على مصر أن تختار بين أن تكون مع أمريكا أو ضدها.. وسؤالي للكاتبين، لماذا على مصر أن تختار بين أمريكا وروسيا؟
لم يكتف الكاتبان والصحيفة الأمريكية بهذا الأسلوب البغيض بل قللت من الأهداف المشتركة بين مصر وأمريكا، محذرة واشنطن من كونها لم تع الواقع الجديد بأن مصر لم تعد ركيزة لسياسة أمريكا في الشرق الأوسط.. وواصلت الصحيفة التقليل من جهود مصر في مكافحة الإرهاب في سيناء، واتهمت مصر بالمبالغة فيما تقول فيما يتعلق بالامتيازات التي تمنحها لأمريكا في قناة السويس، واستخدام قواعد الطيران.. وطالبت الصحيفة الأمريكية ترامب بتقليل المساعدات العسكرية السنوية ما بين 500 مليون دولار و800 مليون دولار؛ لجعل المصادر تتوازى مع الأولويات.. ثم قلل الكاتبان من رد فعل مصر على تقليل المساعدات العسكرية، مؤكدًا أن تقليل المساعدات العسكرية لن يعصف بمعاهدة السلام مع إسرائيل.
الصحيفة الأمريكية انتقلت بعد ذلك لانتقاد ترامب على كرمه الزائد مع مصر وعلى وصفه لها "بالصديق الذي يمكن الاعتماد عليه"، وبعد سلسلة من التحريض، رأت الصحيفة الأمريكية أن تلعب على التناقضات والمشكلات التي تعاني منها مصر، فقالت إن البيت الأبيض يساعد الحكومة المصرية على دفع الشباب المصري للتطرف، ويجعل الشباب المصري يرى أمريكا من منظور عدائي.. وبغض النظر عن قضايا الممارسة السياسية والبرلمانية، وقضايا الخطاب الديني، وقضايا الحريات في مصر التي يعترف معظم المهتمين بإصلاح الحياة السياسية والحياة العامة، فإن الصحيفة الأمريكية لم تر في قرار السيد ترامب تحويل السفارة الأمريكية للقدس سببًا كافيًا لأن يكره الشباب المصري الولايات المتحدة.
الصحيفة الأمريكية لم تكتف بذلك أيضًا، بل عبرت عن البراجماتية وعلاقة المصلحة المتبادلة بين مصر وأمريكا فقالت إن أمريكا تحصل على "صفقة خاسرة" من مصر، وأن ذلك يبدو مثيرًا للسخرية من رئيس -وتقصد هنا ترامب- يصف نفسه بالمفاوض الجيد.. وأخيرًا، نصحت الرئيس الأمريكي ونائبه، مايك بنس، بأنهما سيتمكنان من استعادة جزء من صورة أمريكا إذا أخذا بنصائح الصحيفة الأمريكية.
قيام السيدين "أندرو ميلر" و"ريتشارد سوكولسكي" بتحريض الإدارة الأمريكية ضد مصر باعتبار أنهما يقولان "الحق" لا يخلو من سوء نية وتحيز واضحين؛ لأن هناك فرقًا بين "الحليف" و"التابع"، فالسيدان "أندرو ميلر" و"ريتشارد سوكولسكي"، لا يريدان حليفًا مصريًا، ولكنهما يريدان المصريين "أتباعًا"، ينقل ترامب سفارته للقدس، فيرسلون له برقيات التهنئة أو يصمتوا خجلا من المساعدات الأمريكية.