التنوير وتحديات المجتمع (1)
أبدأ مقالي بطرح سؤال "ما هو مفهوم التنوير؟" التنوير موقف عقلي يقوم على عدة محاور مهمة وأساسية تشكل رؤية متكاملة تجاه المجتمع؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر الإنسان، الحرية، الديمقراطية، الحوار، المواطنة، فهم الطبيعة.. والمجتمع المصري في أحوج الحاجة إلى تلك المفاهيم؛ فنحن نعيش حالة اللا مفهوم؛ بمعنى اندثار المفاهيم الخاصة بالتاريخ المصري وبالهوية المصرية، بل الثقافة والعادات والتقاليد، واختلطت المفاهيم الخاصة ببعض المؤسسات، وانقطع المجتمع المصرى طيلة الأربعين سنة الماضية عن ثقافة المفاهيم التنويرية والتي قدمها لنا الكثيرون من رموزنا.
فقد قدم الشيخ محمد عبده مفاهيم وسطية ومفاهيم الانفتاح على الآخر ولا يعلم الكثير الآن من هو الشيخ محمد عبده الذي تكلم عن مدنية الدولة، بل لا يعلم الفكر المصري الأصيل المستنير الذي قُدِمَ لنا من خلال أحمد لطفى السيد، وسلامة موسى، وطه حسين، وفرح أنطون، وزكى نجيب محفوظ، وعباس العقاد، وتوفيق الحكيم، وغيرهم الكثير والكثير.
وعلى سبيل المثال أيضًا وليس الحصر أتوقف عند "زكي نجيب محمود" فهو يعتبر أستاذًا ومفكرًا ومتفلسفًا بكل معاني الكلمة، وبصماته في كل مكان فقد قدم لنا موضوعات جادة تعالج قضايا متنوعة ومختلفة فلسفية وأدبية وفنية واجتماعية بل إصلاحية، فهو كان أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة.
عاش بين الفكر ومعركة الإصلاح والتجديد، فقد توجه إلى التجديد بالاعتماد على العقل كأداة للمعرفة والإدراك، ومن ثم الدعوة إلى التنوير العقلي، وكان يرى أن التنوير لا يمكن تصوره إلا من خلال التعرف على أفكار الأمم الأخرى من خلال الترجمة في مجالات أدبية وعلمية ومادية.
بحث في قضية الأصالة والمعاصرة وكيفية التوفيق بينهما وكان يرى أن فتح النوافذ، حيث الهواء المتجدد النقي يعد أفضل ألف مرة من الهواء الراكد الفاسد، وأقول هنا تعليقًا على قوله نعم الهواء الفاسد يقضي على كل شيء ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقدم تنويرًا أو تجديدًا أو إصلاحًا، إن زكي نجيب محمود كان حريصًا في دعوته التجديدية على أن يبين أهمية الاستفادة من الأفكار الأخرى المتقدمة؛ أي الانفتاح على حضارة الغرب فيما يتناسب مع الأصالة المصرية الحقيقية.
وحينما نطل بعقلنا إلى الفكر الغربي نجد أبو العقلانية والتنوير ألا وهو ديكارت صاحب المقولة المشهورة (أنا أفكر إذن أنا موجود) أي وضع الإمامة للعقل، وأنه حينما يفكر الإنسان في العالم والمجتمع فإنه يعي وجوده، فهل نستدعي كل الرموز الثقافية والتنويرية ونستدعي تنظيرها لترتيب المجتمع المصري في جميع المجالات والتي أخذت من العقل منبرًا لقياس الأشياء؟ وهل نستدعي مفهوم التنوير ومسار حركته عبر التاريخ لنتقدم بمصرنا؟
فالعقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وهو جسر التواصل المشترك بين المجتمع بل الشعوب، وإن لم نتسلح بمفاهيم التنوير لن نستطيع مواجهة التطرف الفكري وإن لم نستخدم المعايير الموضوعية في حكمنا على الأشياء لن نتقدم؛ فنحن في أمس الحاجة إلى التنوير والعلم لمواجهة التحديات الآنية التي يمر بها وطننا الحبيب؛ فنحن نحتاج أن نبني مؤسسات الدولة بعيدًا عن الشللية والمصالح الذاتية.
فالتحديات الآنية هي تحديات متنوعة في أزماتها، من تحديات أمنية يتعرض لها الوطن داخليًا وخارجيًا وتحديات اقتصادية تؤثر فى المواطن العادي بل تحديات سياسية، والتحدي الأكبر في ظني هو إعادة تجديد الذهنية المصرية بالتاريخ الثقافي والحضاري؛ فالمجتمعات لا تبنى إلا على مفاهيم التنوير التي تتضمن القاعدة الأخلاقية للأفراد، بل على أساس علمي يليق بمصر المستقبل.. والسؤال الذي أختم به مقالي: هل تعد دعوات التنوير الآن وهمًا أم حقيقة؟ وذلك ما سوف أتناوله في مقالي القادم إن شاء الله.