«نعمات» وبنتاها.. قتلهن الفقر وينتظرن الموت من برد الشتاء (فيديو وصور)
هناك أسفل جدار قديم أكل عليه الزمان وشرب بأحد النجوع المعدمة
بأسيوط، تعيش العجوز «نعمات» وبنتاها سعدية ونعمة، في أسوأ ظروف ممكن أن
يحيا فيها البشر، فالمرض أكل عظام الأم وزحف إلى جسد ابنتيها حتى أصابتهما الشيخوخة
فأصبحت الابنة الأولى عبارة عن جسد نحيل ورأس أصلع بسبب حياة الأموات التي تعيشها، والثانية لا حول لها ولا قوة فالجوع غالب وكلمة الفقر نافذة، فهجرهن الزواج، وبقين دون عائل يوفر لهن دخلا أو حماية من الجوع أو برد الشتاء
القارس.
تعيش بطلات المأساة دون بطاقات أو شهادات ميلاد أو أي إثبات لوجودهن في دفاتر الحكومة، فكانوا أول من سقطن من اهتمامها، فخاصمن العالم وفضلن حياة الوحدة يرعين كلبا وجدن فيه الونس والأمان دون البشر.
الأم قاربت الـ90 عاما تتكئ على عصا بالكاد يسند جسدها النحيل، والأخرى تهرول ذهابا وإيابا لجلب كوب مياه من البيت الكبير من وجهة نظرها والذي لا يتجاوز الـ3 طوابق، لكنه بالنسبة لها برج شامخ، والثالثة أغلب الوقت تستلقي فوق مصطبة طينية، صلعاء الرأس تتمتم بكلمات لا تفهم منها سوى أوجاع ألم المرض الذي نهش جسدها.
تعيش العجوز نعمات سليم حمودي بعزبة سرور بقرية نجوع المعادي التابعة لمركز البداري بمحافظة أسيوط في منزل مكون من جدار مهدم ويسقفه الجريد والبوص الذي لا يؤمن من مطر الشتاء وصقيعه أو حر الصيف وشمسه الملتهبة مع ابنتيها سعدية ونعمة اللاتي لم يتزوجا حتى اقتربا من الـ60 عاما من شدة الاحتياج.
وما بين العدم والفقر والجهل والمرض التقت «فيتو» بهن لرصد مأساتهن بعد أن انحنت ظهورهن في قلب دولة لا يعرفنها ولا تعرفهن.. فهن «مقطوعات من شجرة لا يعلمن جذورها».
تقول نعمات والدة العذارى: «أنا معرفش عندي كام سنة بس كنت عايشة أنا وجوزي الله يرحمه وبناتي لما كان البحر الكبير قدام البيت وكنا نسمع عن الملك فاروق وبعدين مشى البحر الكبير وكل حاجة مشت ولا نعرف راحت فين بعدما كترت البيوت».
وتابعت: "اتجوزت وأنا بنت صغيرة من الحاج صدقي حرجان الله يرحمه وخلفت البنتين دول وكانوا قمرات وكنا عايشين من الفلاحة، جوزي كان معاه أرض ومات وهما صغار من 45 سنة ومعرفتش أعمل حاجة والناس خدت الأرض وما سابوش حاجة، واحنا عايشين على باب الله كل أسبوع ييجى أهل الخير ويدونا كام رغيف عيش نبله بالمية وناكل، بناتى صبايا وحلوين بس مفيش فلوس عشان يتجوزوا ولا تخلى حد يدخل ويطلع علينا وكبروا وعجزوا.. البنت الكبيرة سعدية مرضت ومفيش علاج لحد ما عجزت ونايمة على الأرض».
وواصلت العجوز في سرد مأساتها: «كنا عايزين نقبض زى زكية جارتنا معاش وفلوس والجمعية تبني لنا أوضة، بس مفيش حد باصص علينا عشان عايزين أوراق منعرفهاش.. وتعبنا خالص بيعدي علينا الأسبوع مش بنلاقي الغموس وناكل العيش كدة لحد ماحد يفتكرنا من الجيران وأهل الخير».
وترفع الجدة نعمات جلبابها المرقع وبإشارة منها قائلة: «هو توب واحد صيف وشتا لحد ما ربنا يبعتلنا توب جديد بس البنات عايزين يلبسوا هما صغيرين عني».
وتلتقط ابنتها «نعمة» أطراف الحديث لتستكمل مأساتهن: «أنا وأمى وأختي بنعيش من زمان بس مفيش حاجة جيالنا وأختي سعدية مرضت والعجز والشلل وقع شعرها ومش لاقيين العلاج وأهل الخير ساعدونا كتير بس مفيش حاجة دايمة، عايزين أي حاجة نعملها والحكومة تدينا فلوس ولا حتى العمدة يشقر علينا.. احنا كان عندنا زمان أرض والناس خدتها عشان يدونا فلوس ناكل بيها من أيام السادات».
وأضافت: «احنا متجوزناش عشان الفقر.. ومحدش في بلدنا بيتجوز من بنات مقطوعين من شجرة ملهمش راجل، واتعودنا خلاص على الوحدة بس أختي تعبانة والمرض بياكل في جسمها ومش لاقيين الأكل ولا الدواء، عموما نحمد ربنا على العيشة بس القطيعة والفقر مع المرض وحش».
وعن منزل أسرة «نعمات» تجولت «فيتو»، بداخله، وهو مبني بالطوب اللبن ومحاط بالجريد والبوص وفرش قديم على بسطة من الطين مكانا للنوم تلقى عليه العجوز أواني فارغة وفرن عيش بلدي لم تشتعل نيرانها منذ عدة سنوات على حد قولها «مفيش طحين عشان نخبز».
ووجهت الأسرة في النهاية رسالة استغاثة للمسئولين بإنقاذهن من الموت جوعا أو من الموت من شدة البرد.