رئيس التحرير
عصام كامل

حالة ملل


كنت أظن أن حالة الملل التي تصل أحيانًا إلى حد (القرف) هي حالة خاصة بي، لكنني اكتشفت أنها القاسم المشترك بين كثيرين، والغريب أن من أصابونا بهذه الحالة لم يدركوا حجم مصيبتهم فظلوا يزينون لأنفسهم قبح ما يفعلون، ولو اختلى أحدهم بنفسه مستعيدًا ما فات.. لفضل البقاء في خلوته معلنًا توبته، هذا إذا كان مخلصًا لنفسه، أما إذا كان مخلصًا لوطنه فسوف يبادر بالاعتذار لشعب لم يعد قادرًا على تحمل كل هذا القبح، شعب يكظم غيظه طويلًا حتى يعتقد البعض أنه قليل الحيلة، لكنه إذا ثار لن يكون بمقدور أحد رده أو صده، فلا تعولون كثيرًا على حلمه، في القاهرة أعيش.. فأجد من حولي يعيشون نفس الحالة من الملل، وإلى الريف أفر.. فأجد واحة راحتي أصاب من فيها الضجر مع الملل.


مللت من هذه الوجوه التي تسللت إلى وقفة الصحفيين أمام نقابتهم اعتراضًا على قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، هي نفس الوجوه التي شاهدتها قبل ست سنوات تهتف ضد الجيش والشرطة في نفس المكان، وهي نفس الوجوه التي أسهمت في فوضى يناير ٢٠١١، لكن هتافهم هذه المرة تغير، هتفوا ضد السيسي، ولا أعرف سببًا لذلك، وكأن السيسي هو من اتخذ قرار نقل السفارة، أو أن ترامب كان ينتظر رفض السيسي حتى يعدل عن رأيه، أو أننا في حالة استقرار ولا نعاني من إرهاب استحل دماءنا وأصبحنا كل يوم نشيع شهداء، أو أننا في رفاهية تجعلنا نحارب أمريكا وإسرائيل..

ألا يعلم هؤلاء أنهم شاركوا من قبل في جريمة يناير التي أنهكت مصر اقتصاديًا وأمنيًا واجتماعيًا؟ ألا يعلم هؤلاء الحنجوريون أن المجتمع أصبح يتقزز من طلتهم ويصم أذنه عن هتافاتهم ولو تمكن منهم لجعلهم عبرة؟ لو كنت صاحب قرار لفتحت أمامهم المجال للذهاب إلى القدس ليحرروه هم من قبضة إسرائيل، وأتحدى لو برح أحدهم سلالم نقابة الصحفيين، فمن قبلهم كان الإخوان الذين صدعونا بهتافهم (على القدس رايحين شهداء بالملايين) وعندما وصلوا إلى الحكم أصبحت إسرائيل صديقة وتحول بيريز إلى (العزيز بيريز).

هؤلاء الحنجوريون هم من أضعفوا مصر عندما تمادوا في مؤامرة يناير.. فلا الشعب قادر على الصمود للمواجهة، ولا الحاكم قادر إلا على الشجب والاستنكار وما دون ذلك يكون انتحارًا، أما القدس فحمايتها ليست حكرًا على المصريين، فتلك قضية إسلامية مسيحية عربية.

مللت أيضًا هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الرئيس، يعلمون ما يجري في دهاليز قصر الرئاسة وكأن السيسي يسر لهم بما يخفيه عن الشعب، فهذا مذيع يشعرنا أنه عليم ببواطن الأمور، ويحكى عن حديث كان طرفاه السيسي وترامب وكيف أن الأول اعترض على القرار لكن الثاني أصر، وهذا آخر يتحدث عن مكالمة هاتفية بين السيسي وترامب استمرت طويلًا لكن الأخير فاجأ الجميع بقراره، وهذا صحفي اعتدنا عليه متحدثًا باسم كل الرؤساء ظل يفتي ويتحدث باسم الجميع، ألا يعلم هؤلاء أنهم يسيئون إلى الرئيس؟ ألا يعلمون أنهم بحديثهم عن اتصالات بين السيسي وترامب كانت محصلتها صفر.. تحمل إساءة لرئيس أكبر دولة عربية؟

هذه النوعية من المذيعين عادة ما يتحدثون أيضًا باسم الشعب الذي لم يعد يصدقهم وعزف عن مشاهدتهم وقياس رأي واحد للجمهور سوف يتضح أنهم أصبحوا عبئًا على الرئيس، وكاذب من يدعي غير ذلك.

مللت من الذين ينافقون في كل العصور، يأكلون على كل الموائد، ويتملقون كل ذي منصب، حتى إذا ذهب.. بحثوا عن غيره لينافقونه، والعجيب.. أنهم الأقرب لصناع القرار، وهم أحيانًا حلقة الوصل بينهم وبين المواطنين، ولهم من المميزات ما يجعلنا نضرب كفًا بأخرى كلما شاهدناهم.

مللت من المسئولين الذين عجزوا عن التواصل مع الجماهير وتركوا السيسي فريسة لهتافات البعض، هؤلاء كان عليهم أن يوجدوا بين الناس ليشرحوا لهم أننا نلملم جراحنا بسبب الإرهاب ونبني اقتصادًا مهللًا وأن مصر هي الجائزة الكبرى للمتربصين بالمنطقة وأن المغامرة بالجيش حاليًا هي انتحار، وأن البعض يحاول جرجرتنا إلى ما لا يحمد عقباه، وأننا قدمنا الكثير للقضية الفلسطينية وما زلنا وسنظل، على هؤلاء أن يلفتوا الأنظار إلى باقي دول المنطقة الأكثر استقرارًا منا والتي لم تقدم ما قدمنا لفلسطين عندما كنا أعفياء، وأن الرئيس الفلسطيني نفسه لم تتعد ردة فعله على قرار ترامب ردة الفعل المصري وكذلك قادة حماس ورؤساء الدول العربية والإسلامية، فلماذا يريد البعض أن تتصدر مصر المواجهة.

مللت من الذين يقرءون أجزاءً من المشهد ولا يقرءون المشهد كاملًا، فالذين أشاعوا فوضى يناير غاب عنهم قراءة تفاصيل المشهد فكانوا أداة للمتآمرين، والذين هتفوا بعد قرار ترامب ضد الجيش والسيسي هم بقايا هؤلاء الذين لم يقرءوا سوى نفس المشهد، هؤلاء يشبهون الذين هللوا لأردوغان في فترة حكم الإخوان، ثم صبوا عليه لعناتهم فيما بعد، وصفقوا لفوز ترامب وكأنه جاء ليخلص القدس من إسرائيل ووجهوا سيلًا من السباب لمنافسته هيلاري كلينتون، وها هم يلعنون ترامب، كل هؤلاء لم يقرءوا المشهد كاملًا، ففقدوا مصداقيتهم وأصابونا بالملل.
basher_hassan@hotmail.com
الجريدة الرسمية