يسرا.. حدوتة مصرية
لم يكن اختيار "سيفين محمد حافظ نسيم" الشهيرة بــ"يسرا" كسفيرة للنوايا الحسنة من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2006 مجرد مصادفة أو حتى على سبيل الموضة باعتبارها واحدة من المشاهير القادرين على خدمة هذا المنصب أو لأسباب سياسية كما يحدث كثيرا لمن يؤمنون بأفكار أو يكونون قادرين على خدمة مفاهيم بعينها، وإنما كان هذا الاختيار وربما لأول مرة في تاريخه لأسباب إنسانية لها علاقة بتلافيف فكر وروح وتاريخ تلك المبدعة التي جمعت في داخلها "رقة المشاعر ومسحة حزن وانكسار" حولتها مع الأيام لعطاء وغفران وتسامح لتصبح كتلة من البلسم الشافي لجراح كل من يقترب منها.
وفي مهرجان القاهرة السينمائي الأخير وقفت يسرا لتثبت أن رئاستها الشرفية لهذه الدورة ليست مجرد ديكور أو من قبيل المنظرة حيث نفاجأ بها بعد فضيحة تعثر عرض فيلم الافتتاح في مكان غير مجهز لذلك، تصر على إقامة عرض ثانٍ للفيلم في اليوم التالي للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد وتقوم بالاعتذار بنفسها عما حدث، وكأنها المسئولة عما حدث، رغم شرفية المنصب حيث لن يسألها أحد عن أخطاء المنظمين الحقيقيين للمهرجان وهم رئيسته المستقيلة أو المقالة، لا يهم، ومن معها، لكنه الشعور بالمسئولية الوطنية تجاه حدث يحمل اسم مصر قبل أي شيء آخر، ربما لها السبب أيضا وغيره كان اختيارها رئيسا لمهرجان القاهرة السينمائي من الدورة القادمة لتصبح النجمة رقم 3 كرئيس احترافي لهذا المهرجان بعد حسين فهمي وعزت أبو عوف، ورغم أنها لم ترد بالموافقة حتى هذه اللحظة فإنه يتوقع قبولها المنصب الجديد بحكم حماسها لأي عمل يحمل اسم مصر واستعدادها للتضحية ببعض الأعمال الفنية مقابل ذلك.
لقد عملت يسرا مستشارا لمهرجان الجونة السينمائي في دورته الأولى، كما اختيرت عضوا ورئيسا بلجان تحكيم مهرجانات سينمائية عديدة منها رئاستها مهرجان ترايبكا السينمائي عام 2010، وفي نفس العام اختيرت عضوا بلجنة تحكيم مهرجان مراكش السينمائي الذي كرمها أيضا في دورته الثانية، كذلك رئيسة لجنة تحكيم المسابقة الدولية بالقاهرة السينمائي وغيرها من المهرجانات، كما كرمت بالعشرات من هذه المهرجانات داخل مصر وخارجها مع العديد من الجوائز، وكل ذلك لم يكن نابعا إلا من مشوار فني وخبرة لا يستهان بها ودبلوماسية يعرف بها السفراء الناجحون، وتواضع وأدب جم لتجمع كل ذلك في شخصية يمكن أن تطلق عليها بمنتهى الاطمئنان والثقة أنها حدوتة مصرية، مثلما يمكن أن نطلق عليها (سيدة القاهرة) وهو اسم فيلم آخر قدمته مع مخرج مغربي يدعى مؤمن سميحي.
والحقيقة أن يسرا من أكثر الفنانات التي حاولت أن تغير وتطور نفسها وتغير من جلدها بجرأة حقيقية، فكانت من أول اللاتي قدمن دور الأم في جيلها وهي في سن صغيرة، فلم تعتمد على جمالها الخارجي، وهي بالطبع جميلة وإنما حرصت على إظهار جمال داخلي للشخصيات التي قدمتها يعكس جمالها الداخلي الإنساني الأصيل، كما قدمت الكوميديا والميلودراما والسيكودراما والغنائي والاستعراضي والسياسي، فلم تترك قالبا أو شكلا فنيا إلا وقدمته باقتدار، ودعونا نتذكر أفلامًا مهمة لها مثل «حدوتة مصرية»، «إسكندرية كمان وكمان»، «المهاجر»، و«إسكندرية نيويورك»، مع يوسف شاهين، لنعرف وجها واحدا فقط من أوجه التنوع.
ثم دعونا نتذكرها مع يسرى نصر الله في «مرسيدس» لنرى وجهًا آخر لشخصيتين معقدتين (وردة وعفيفة) يجمعهما الحياة البوهيمية الصاخبة والتركيب الجنسي الشاذ أحيانا، ثم نتابع وجها ثالثا ورابعا وخامسا مع وحيد حامد وشريف عرفة في طيور الظلام والإرهاب والكباب، بل في أكثر من 15 فيلما كاملة قدمتها مع عادل إمام، وهي كلها وجوه تختلف عن أعمال أخرى لها مع مخرجين كبار آخرين أمثال صلاح أبو سيف في "البداية"، وعلي بدرخان في "نزوة" و"الراعى والنساء"، وأشرف فهمي في "بستان الدم"، وسمير سيف في "عيش الغراب" و"معالى الوزير"، بالإضافة لخالد يوسف في "العاصفة"، ومحمد ياسين في "دم الغزال"، ومروان حامد في "عمارة يعقوبيان".
هذه هي يسرا التي عرفتها منذ أكثر من ربع قرن على الشاشة قبل أن ألتقيها، ثم اقتربت منها في مناسبات فنية مختلفة حتى صرنا أصدقاء، وقد ننشغل في الحياة لشهور أو سنوات فأتابعها عن كثب في عمل درامي مفعم بالإبداع (كحياة الجوهري أو قضية رأي عام، أو خاص جدا، أو فوق مستوى الشبهات)، ثم نعود لنلتقي فأجدها قد صهرتها الأيام وضاعفت من مساحة الشجن الإنساني والنضج الفني، وأذكر أنني بداية لقائي معها كان يوم أن قدمت الفيلم الوحيد من إنتاجها وهو (ضحك ولعب وجد وحب) إخراج طارق التلمساني وبطولتها مع عمر الشريف وعمرو دياب، وكان فيلم افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي عام 1994، فكانت نموذجًا لفنانة مغامرة معجونة بحب الفن والسينما والحياة ليضيف ذلك إلى رصيدها الإبداعي تنوعًا والإنساني خصوبة، ألم أقل لكم إنها حدوتة مصرية!