حسن زايد يكتب: سقوط شفيق
قال تعالى: "وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُون "، ومعنى الآية أن من طال عمره، ارتدت قواه، وتراجعت قدراته، وشملته حال عامة من التدهور والنكوص، الظاهرة والخفية، لكافة التركيبات والأنشطة البدنية؛ لتستوعب عبارة "ننكسه في الخلق"، فالعبارة أطلقت للتعبير عن حالة متدرجة من التدهور والانهيار، تصيب كافة الأجهزة، والأعضاء، والأنسجة، والخلايا، فتضعف قدرتها على التكيف.
ولذا فالشيخوخة وفقًا للنظرة الحديثة، هي حالة تدمير ذاتي مبرمج، وهي ليست حالة مرضية يمكن التعافي منها بالعلاج أو بالتدخل الجراحي، إنما هي التطور الطبيعي للكائنات حتى الممات، بمن في ذلك الإنسان، ونحن نعلم أن الإنسان ـ وغيره من الأحياء ـ يموت قبل أن يموت.
والفريق أحمد شفيق، المرشح الرئاسي السابق، ضد مرشح الإخوان محمد مرسي، قد بلغ من العمر 76 عامًا، غادر القاهرة إلى الإمارات في 2012 م، خشية تنكيل الإخوان به، وقد خرج من مصر بدعوى العمرة، ويبدو أن الرجل ـ الذي أحترمه ـ قد أصابته الشيخوخة بسهامها، فإذا به يحدث انقلابًا دراماتيكيًا في المشهد السياسي، لا يقاس بمعايير القوة والعنف والفتوة السياسية، بقدر ما يقاس بمعايير الضعف والتضعضع والانهيار السياسي.
فبالأمس انقلبت الدنيا على المسرح السياسي، بسبب ذلك الرجل العجوز، باعتباره أقوى خيارات المعارضة السياسية للنظام الحالي، أو هكذا تصوره أنصاره وتصورناه، وبغض النظر عما قيل عن هذه الفصائل، وتوجهاتها، وأيديولوجيتها، بما في ذلك بعض الفصائل الإرهابية.
فقد قام الرجل العجوز بالتدمير الذاتي المبرمج لنفسه، بانقلابه على خياراته المنطقية المتوجبة، فالرجل كان ملاحقًا قضائيًا من زمن الإخوان، ثم برئت ساحته، ورفع من قوائم ترقب الوصول، وأصبحت أبواب مصر مفتوحة أمامه، بعد عودته من منفاه الاختياري الذي فر إليه.
ولو كان لديه طموح ـ في عمر تتراجع فيه الطموحات ـ أن يترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، لكان من الأجدر به إعلان ذلك من القاهرة، وسط أنصاره، وتحت سمع وبصر الجماهير المصرية، إلا أنه يقال إنه قد بحث الأمر مع مستشاريه، وأجرى اتصالات مع بعض الشخصيات في الخارج، وتواصل مع الإخوان عن طريق وسيط، وقد أقنعوه بأهمية الإعلان المبكر عن الترشح، فذلك يحدث أمرين: الأول ـ إحداث ضجة دولية، الثاني: إحداث إرباك في الموقف المصري، ووضع النظام في موقف حرج، وإحداث نوع من الضغط الخارجي عليه، للزوم التوافق الإقليمي والدولي على من يحكم مصر في تصوراتهم.
وقد نسي أو تناسى أو تجاهل عامدًا، أثناء الترتيب لذلك، أن يعزي الشعب المصري في مصابه في شهداء مذبحة مسجد الروضة بسيناء، ولو من باب التعزية البروتوكولية بلغة الساسة، أو من باب النفاق الاجتماعي الواجب، طالما امتنعت على حَلقه وقلبه التعزية الصادقة الواجبة، وقد جاء إعلانه عن الترشح بعد سويعات من خطاب الرئيس السيسي، الذي دعا فيه إلى حشد كافة القوى الشاملة لمواجهة الإرهاب في سيناء.
ولقد رتب الرجل بليل لهذا الأمر؛ لأنه يعلم أن من شروط الاستضافة، الامتناع طوعًا عن الكلام في السياسة، فضلًا عن الاشتغال بها، حتى لا يسبب حرجًا للدولة المضيفة، مع دولته، خاصة في ظل العلاقات الحميمية، التي تربط بين الشعبين، والنظامين، في مصر والإمارات.
إلا أنه قد فاجأ الجميع حقًا، فقد أعلن ترشحه عبر وكالة أجنبية هي وكالة رويترز الأمريكية المعروف موقفها من مصر، ولم يعلنه من القاهرة، على الرغم من تصريحه بذلك من قبل، كما أنه لم يتوجه إلى الشعب المصري بخطاب الترشح، وبعد هذا الإعلان بسويعات قليلة، تفاجأ الجميع بشريط آخر، لا ريب أنه معد على نحو مسبق، أرسل به عبر وسيط، إلى قناة الجزيرة استهله بقوله: "بني وطني" وهي نفس استهلالة الإعلان عن ثورة يوليو 1952م، بصوت الرئيس السادات ـ رحمه الله ـ بما يعطي انطباعًا لا تخفى دلالته، ثم استطرد مدعيًا أن الإمارات تمنعه من السفر، وحالت بذلك بينه وبين قيامه بجولة بين أبناء الجاليات المصرية في الخارج، وكذا إعاقته عن المشاركة الدستورية، والمهمة الوطنية المقدسة، وأنه لن يتراجع عن واجبه، متقبلًا أي مصاعب أو متاعب، وأنه يرفض التدخل في شئون بلده.
وهذا الموقف المزري التآمري له عدة دلالات: الأولى: التجائه للجزيرة وقطر والإخوان باعتبارهم حلفاء فعليين، على الرغم من رعايتهم للإرهاب وممارسته، وموقف الدول العربية من ذلك، وعلى الأخص مصر والإمارات، الثانية: الوقيعة بين مصر والإمارات، الثالثة: وضع الإمارات في ورطة بعد اتهامها بالمنع من السفر، وإثارة الرأي العام الدولي ضدها، أي تدويل حكايته الخائبة، وكان السيناريو المعد تبعًا لذلك، عودته إلى مصر تحت ظلال الحماية الدولية مصحوبة بحملات إعلامية مخططة، تستهدف الحشد ضد النظام الحاكم في مصر، وقد كان رد الفعل الإماراتي هي إمهال السيد شفيق فترة لمغادرة البلاد، وقد خرجت محاميته بتصريحات خائبة حول نفيه إرسال الشريط إلى الجزيرة، وأنه سيتقدم ببلاغ ضد قناة الجزيرة.
لم يدرك السيد / شفيق اتساع الفتق على الرتق. وأنه قد أجهز على نفسه مبكرًا، وأعلن انتحاره قبل خوض المعركة، وقفز من فوق المسرح، ليتوارى خلف مقاعد المتفرجين، لا نقول ذلك من باب الموالاة السياسية للنظام القائم، ولا من باب الشماتة في نجم شباك المعارضة السياسية، إنما نقول ذلك من باب خيبة الأمل، فقد كان أملنا أن نجد الشخصية السياسية ذات الثقل في الوزن والعيار، تخلق مع قوة النظام الحالي، حياة سياسية فاعلة، تكون قادرة على خلق المناخ الملائم؛ لخلق بيئة سياسية خصبة، تحتاجها الأجيال المقبلة.
حــســــن زايـــــــــد