رئيس التحرير
عصام كامل

اعتذار


اعتذر عن عدم كتابة مقال هذا الأسبوع ونستأنف السبت القادم، فأحيانًا لا تكفي كل الكلمات مجتمعة للتعبير عن موقف واحد فقط.
ورغم أن مهنة الكتابة علمتني طرقًا مختلفة لصياغة الرسائل، وإيصالها للمتلقي إلا أنني لا امتلك الآن المفردات اللازمة للتعبير عن مشاعري حيال حادث العريش، لذلك أعتذر عن عدم كتابة هذا المقال ونستكمل معًا في الأسبوع القادم.


وجدت نفسي مقيدًا بين مطرقة الحدث المهم، وسندان الرغبة في الصمت ليدفعني الأخير نحو رفض التعليق على الحادث في تصريحات صحفية خجلًا من مشاهد الدماء.. أزعجتني فكرة أن يُفسر أحدهم الأمر بمحاولة التواجد الإعلامي وسط جثث الضحايا، لذلك قررت عدم كتابة المقال أيضًا.. لكنني لم أستطع منع الأسئلة من التدافع في عقلي.

أحيانًا تكون الأسئلة أهم من الإجابات لذلك الاعتذار عن الشيء قد يكون معبرًا أكثر من القيام به.. حاولت الكتابة مجددًا، ولكنني توقفت عند التساؤل عما إذا تواجد وسط المصلين رجل سجد داعيًا للمولى عز وجل أن ينعم على والدته المريضة بالشفاء قبل أن ينال الرصاصات الغادرة لتصعد روحه للسماء ويهبط جسده في القبر بجوار والده ويخبره باكيًا بأنه لن يستطيع الآن الاعتناء بأمه كما أوصاه.

حاولت مرارًا التعبير عن الحادث ولكنني صمتُ احترامًا لرجل انشغل بالتفكير في سداد متطلبات أسرته، وابتسم شاكرًا الله وقد أنعم عليه بالقليل من المال وسيتمكن أخيرًا من شراء "جاكت" لابنته الصغيرة التي قرصت عظامها اللينة برودة الطقس ولم تستطع ملابسها البالية أن تصد الرياح القاسية مثلما لم يتمكن جلبابه من التصدي لرصاصات أكثر قسوة حصدت روحه وجعلت طفلته بلا حماية من برودة السنوات القادمة بدون والدها، وثالث اخترقت الرصاصات قلبه الذي امتلأ طوال الصلاة بالأمل في طلب سعة الرزق حتى يتمكن من إحضار الحلوى التي طلبها ابنه مرارًا ومنعه عن إحضارها ضيق الحال.

حاولت طرد تلك التخيلات من رأسي في محاولة يائسة لاستجماع أفكاري ولكن لاحقتني ابتسامة طفل أسعده تواجده للمرة الأولى داخل المسجد بجوار جده قبل أن يستكملا الصلاة معًا في الجنة مؤكدين أن الإرهاب الذي استهدف الكنائس سابقًا وجد طريقه للمساجد حاليًا في تبرئة للدين ممن لا يعطون للحياة معنى أو للقيم الإنسانية اعتبارا.

كثرة المشاهد الإنسانية وتدافعها أمامي جعلني على يقين بأن الحقيقة سوف تزيد عنها كآبة، وأنها إذا قررت كتابة مآسيها وأحزانها سوف تُسكت الجميع لذلك توقفت مستسلمًا.

أوقفت القلم عن العمل، وتذكرت أن هناك فلسفة تتحدث عن رجوع الروح للحياة بجسد آخر، وأزعم بأنني وغيري الملايين كنا داخل المسجد نتلقى الرصاصات بأرواحنا كلما شاهدنا صورة أو تابعنا أخبار الحادث حتى ردت علينا جدران المسجد بالبكاء بدمائنا جميعًا..
ولكل ما حدث اعتذر عن عدم كتابة مقال هذا الأسبوع لأن "حبر" القلم لن يعوض أبدًا "دماء" الشهداء.
الجريدة الرسمية