استقلال السلطة القضائية
كانت الدعوة الى تظاهرة الجمعة قبل الماضية بهدف "تطهير القضاء".. كنت أفهم أن تكون التظاهرة دعما لاستقلال السلطة القضائية.. وهى القضية الأولى بالرعاية والاهتمام.. فالقضاء حينما يكون مستقلا يصبح صمام أمن العدالة والاستقرار داخل المجتمع.. من المؤكد أن لدينا قضاة ليسوا فوق مستوى الشبهات، لكن ما هو عددهم؟ ما هى نسبتهم؟ هو بالقطع عدد محدود للغاية ويمثل نسبة لا تكاد تذكر، خاصة فى مجتمع استشرى فيه الفساد فى معظم أجهزة الدولة.. إذن الجسم العام للقضاة سليم وفى عافية.
ما الذى جرى حتى يتغير التظاهر من دعم استقلال القضاء عام ٢٠٠٥ و ٢٠٠٦ إلى دعوة لتطهير القضاء هذه الأيام؟! أوليس هو نفس القضاء، أم أننا نقصد قضاءً غيره؟! وهل من الممكن أن يكون الفساد تفشى فى القضاء الذى دعمناه ووقفنا إلى جواره خلال تلك الفترة الوجيزة؟! لقد أشرف هذا القضاء على الانتخابات النيابية - شعب وشورى - فى نهاية العام الماضى، كما أشرف على انتخابات الرئاسة فى الجولتين - الأولى والثانية - فى منتصف عام ٢٠١٢، ومع ذلك لم نسمع ولم نشاهد أحدا يدعو إلى تظاهرة مليونية لتطهير القضاء (!!) أهى ازدواجية معايير؟! هل إذا جاءت الأحكام والمواقف على هوانا، هللنا وطربنا، وإن لم تكن كذلك أصابنا ثرنا وتظاهرنا؟
واضح أن التظاهرة كانت لتهيئة المناخ لإصدار تشريع من مجلس الشورى - ذى الـ٧٪ - للإطاحة ب ٣٥٠٠ قاض، كما صرح بعضهم.. هى إذن مذبحة جديدة للقضاة، لكن بشكل غير مسبوق.. نحن بصدد انحراف تشريعى سوف يحكم لا محالة بعدم دستوريته، لأنه ليس مجردا.. تماماً كما كان قانون العزل الذى أصدره مجلس الشعب "المنحل".
فى الدول الديمقراطية، يكون هناك فصل حقيقى وتوازن تام بين السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية.. أما فى الدول الاستبدادية فعادة ما تتغول فيها السلطة التنفيذية على كل من السلطتين الأخريين.. أفهم جيدا أن السلطة القضائية تعرضت خلال العقود الماضية على يد السلطة التنفيذية إلى عسف شديد فى محاولة لتطويعها ولى عنقها.. ورغم ذلك لم يمنع السادة القضاة من إصدار عشرات الآلاف من الأحكام القضائية التى وقفوا فيها إلى جوار الحق والعدل وضد عسف السلطة.. صحيح أن الأخيرة كانت تهدر معظم هذه الأحكام لكن صدور الأحكام فى حد ذاته كان يعنى أن فى مصر قضاة، لا يخشون إلا الله"، كما آلاف المتظاهرين يرددون فى هتافاتهم.
يا سادة..استقلال السلطة القضائية هو الشىء الوحيد الذى يقوم أى اعوجاج.. فلندع القضاء يطهر نفسه بنفسه.. ليكن التفتيش القضائى تابعا لمجلس القضاء الأعلى وليس لوزير العدل، حتى يكون هناك استقلال حقيقى للسلطة القضائية.. ليكن المجلس الأعلى للقضاء هو المسئول عن الندب والتعيين وتقدير الصلاحية.. الخ.. لقد قام رئيس الدولة - الذى يقبع على قمة هرم السلطة التنفيذية - بإصدار قرار بتعيين المستشار طلعت عبدالله نائبا عاما، متغافلا ومعتديا بذلك على المجلس الأعلى للقضاء.. فلماذا لم تكن هناك دعوة إلى تظاهرة لدعم استقلال السلطة القضائية؟!
يا سادة.. ما هكذا تورد الإبل.. تريدون النزول بسن المعاش للسادة القضاة إلى ٦٠ سنة، لكن هل تتصورون أنكم بذلك سوف تقضون على الفساد؟!..هل لمجرد التخلص من عشرة قضاة (مثلا) تضحون بأكثر من ثلاثة آلاف قاض؟ أم أن المسالة وراءها شىء آخر؟!..
استقيموا يرحمكم الله.
نقلا عن جريدة "فيتو" الأسبوعية